للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ خَاطِرٌ شَيْطَانِيٌّ، وَأَنَّ إبْلِيسَ هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُقَاتِلُهُ، فَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ الْمُجَاهِدِ؛ لِأَنَّهُ يُحَارِبُ عَدُوَّ اللَّهِ، فَإِذَا اسْتَشْعَرَ ذَلِكَ فَرَّ عَنْهُ، وَأَنَّهُ مِمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ نَوْعُ الْإِنْسَانِ مِنْ أَوَّلِ الزَّمَانِ وَسَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِحْنَةً لَهُ؛ لِيُحِقَّ اللَّهُ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.

وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي فَقَالَ: ذَلِكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ، فَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِك ثَلَاثًا، فَفَعَلْت فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي.

وَفِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَطَاءٍ قَالَ: ضَاقَ صَدْرِي لَيْلَةً لِكَثْرَةِ مَا صَبَبْت مِنْ الْمَاءِ، وَلَمْ يَسْكُنْ قَلْبِي فَقُلْت: يَا رَبِّ عَفْوَك، فَسَمِعْت هَاتِفًا يَقُولُ: الْعَفْوُ فِي الْعِلْمِ؛ فَزَالَ ذَلِكَ عَنِّي اهـ.

وَبِهِ تَعْلَمُ صِحَّةَ مَا قَدَّمْته أَنَّ الْوَسْوَسَةَ لَا تُسَلَّطُ إلَّا عَلَى مَنْ اسْتَحْكَمَ عَلَيْهِ الْجَهْلُ وَالْخَبَلُ وَصَارَ لَا تَمْيِيزَ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ الِاتِّبَاعِ وَلَا يَمِيلُ إلَى الِابْتِدَاعِ.

وَأَقْبَحُ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُوَسْوَسُونَ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ - إمَامِ أَهْلِ زَمَنِهِ -: كَانَ رَبِيعَةُ أَسْرَعَ النَّاسِ فِي أَمْرَيْنِ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَالْوُضُوءِ، حَتَّى لَوْ كَانَ غَيْرَهُ - قُلْت: مَا فَعَلَ. وَكَانَ ابْنُ هُرْمُزَ بَطِيءَ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْوُضُوءِ، وَيَقُولُ: مُبْتَلًى لَا تَقْتَدُوا بِي.

وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ بُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فِي الْوُضُوءِ، أَوْ الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ إذَا سَمِعَ الذِّكْرَ خَنَسَ؛ أَيْ: تَأَخَّرَ وَبَعُدَ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ - رَأْسُ الذِّكْرِ وَلِذَلِكَ اخْتَارَ صَفْوَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ - مِنْ أَصْحَابِ التَّرْبِيَةِ وَتَأْدِيبِ الْمُرِيدِ - قَوْلَ (لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) لِأَهْلِ الْخَلْوَةِ، وَأَمَرُوهُمْ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا، وَقَالُوا: أَنْفَعُ عِلَاجٍ فِي دَفْعِ الْوَسْوَسَةِ الْإِقْبَالُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا شَكَوْت إلَى الدَّارَانِيِّ الْوَسْوَسَةَ فَقَالَ: إذَا أَرَدْت قَطْعَهُ فَمَتَى أَحْسَسْت بِهِ فَافْرَحْ فَإِذَا فَرِحْت انْقَطَعَ عَنْك فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَى الشَّيْطَانِ مِنْ سُرُورِ الْمُؤْمِنِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ إنَّمَا يُبْتَلَى بِهِ مَنْ كَمُلَ إيمَانُهُ؛ فَإِنَّ اللِّصَّ لَا يَسْرِقُ مِنْ بَيْتِ لِصٍّ مِثْلِهِ اهـ.

وَهَذَا إنْ سَلِمَ فَهُوَ فِي الْوَسْوَاسِ فِي الْعَقَائِدِ؛ لِمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَحْضُ الْإِيمَانِ.

عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ ابْنَ عَرَفَةَ قَالَ إنَّمَا يُبْتَلَى بِهِ فِي الدِّينِ مَنْ أَخَذَهُ تَقْلِيدًا دُونَ مَنْ عَرَفَ بَرَاهِينَهُ؛ لِأَنَّ الْوَسْوَاسَ شَكٌّ وَهُوَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ الْمُسْتَنِدِ إلَى دَلِيلٍ لِكَوْنِهِ ضِدَّهُ.

وَقَالَ الْعَارِفُ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ: إذَا كَثُرَ عَلَيْك الْوَسْوَاسُ فَقُلْ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْخَلَّاقِ {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: ١٩] {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: ٢٠] ، أَذْهَبَ اللَّهُ عَنَّا سَائِرَ الْمَضَارِّ وَالْمَخَاوِفِ وَالْفِتَنِ، وَأَنَالَنَا كُلَّ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِ وِلَايَةِ أَهْلِ النِّعَمِ وَالْمِنَنِ إنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - بِمَا لَفْظُهُ ذَكَرَ: الشَّيْخُ زَكَرِيَّا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِ الْبَهْجَةِ أَنَّهُ إذَا اسْتَوَى مُعْتَدِلًا بَعْدَ رُكُوعِهِ أَرْسَلَ يَدَيْهِ إرْسَالًا خَفِيفًا إلَى تَحْتِ صَدْرِهِ فَقَطْ. وَقَالَ غَيْرُهُ بِإِرْسَالِهِمَا فَمَا الْمُعْتَمَدُ مِنْ ذَلِكَ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّهُ يُرْسِلُهُمَا وَلَا يَجْعَلُهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ، وَعِبَارَةُ شَرْحِي لِلْعُبَابِ بَعْدَ قَوْلِهِ (فَإِذَا انْتَصَبَ أَرْسَلَهُمَا) : وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ هُنَا بَلْ صَرِيحُهُ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ أَوْهَمَ إطْلَاقُهُمْ جَعْلَهُمَا تَحْتَهُ فِي الْقِيَامِ خِلَافَهُ، ثُمَّ رَأَيْتهمْ صَرَّحُوا بِمَا ذَكَرْته؛ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْقُنُوتِ فَقَالَ كَثِيرُونَ: لَا يَرْفَعُ كَدُعَاءِ الِافْتِتَاحِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: بَلْ يَرْفَعُ، وَفَرَّقُوا بِأَنَّ لِيَدَيْهِ ثَمَّ وَظِيفَةً أَيْ: وَهِيَ جَعْلُهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ وَلَا وَظِيفَةَ لَهُمَا هُنَا اهـ.

فَقَوْلُهُمْ: لَا وَظِيفَةَ لَهُمَا هُنَا صَرِيحٌ فِي إرْسَالِهِمَا، وَأَنَّهُ لَا يُنْدَبُ جَعْلُهُمَا تَحْتَ الصَّدْرِ وَإِلَّا لَمْ يَتَأَتَّ الْفَرْقُ بِمَا ذُكِرَ، انْتَهَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ قَوْلِ الْأَئِمَّةِ فِي السَّلَامِ: يَنْوِي بِهِ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنْ مَلَائِكَةٍ وَإِنْسٍ وَجِنٍّ؛ فَلَوْ دَخَلَ عَلَى الْمُصَلِّي دَاخِلٌ حِينَئِذٍ فَهَلْ يَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهِ لِسَلَامِ الْمُصَلِّي أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: مَا ذُكِرَ عَنْ الْأَئِمَّةِ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الرَّدِّ كَمَا بَيَّنْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَعِبَارَتُهُ: اُعْتُرِضَ قَوْلُهُمْ يَنْوِي السَّلَامَ عَلَى مَنْ ذُكِرَ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ؛ فَإِنَّ الْخِطَابَ كَافٍ فِي الصَّرْفِ إلَيْهِمْ، فَأَيُّ مَعْنًى

<<  <  ج: ص:  >  >>