كَلَامِهِمْ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَوْ تَعَارَضَ إدْرَاكُ الْجَمَاعَةِ وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ الْفَرَائِضِ؛ بِأَنْ دَخَلَ مَنْ عَلَيْهِ فَائِتَةُ الظُّهْرِ مَثَلًا.
وَرَأَى الْجَمَاعَةَ فِي الْعَصْرِ قَدَّمَ التَّرْتِيبَ؛ فَيُصَلِّي الْفَائِتَةَ وَحْدَهُ، وَإِنْ خَشِيَ عَدَمَ إدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَنَا وَفَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ أَحْمَدَ لَكِنْ الْقَائِلُ بِذَلِكَ لَا يَرَى بُطْلَانَ الصَّلَاةِ بِفَقْدِهَا، وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يَقُولُ بِهِ أَنَّ مَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ أَثِمَ، بِخِلَافِ تَرْتِيبِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِفَرْضِيَّتِهِ فَإِنَّهُ يَرَى بُطْلَانَ الصَّلَاةِ عِنْدَ فَقْدِهِ. قَالُوا: فَكَانَتْ رِعَايَتُهُ آكَدَ مِنْ رِعَايَةِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ فَقُدِّمَ عَلَيْهَا، وَإِنْ خَشِيَ أَوْ عَلِمَ فَوْتَهَا.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِنْ أَنَّ فَقْدَهَا مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ فَهُوَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِهِ فَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهَا، بِخِلَافِ الْإِبْطَالِ بِفَقْدِ التَّرْتِيبِ فَإِنَّهُ مُتَّفِقٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهِ عَلَى أَنَّ فَقْدَهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ؛ فَثَبَتَ أَنَّهُ آكَدُ مِنْ الْجَمَاعَةِ، وَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرْته الرَّدُّ عَلَى الْإِسْنَوِيِّ وَغَيْرِهِ فِي قَوْلِهِمْ بِتَقْدِيمِ الْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ ذَلِكَ تَقَرَّرَ مَا فِي الْجَمَاعَةِ وَالتَّرْتِيبِ، وَعَلِمْت أَنَّ الْأَصَحَّ تَقْدِيمُ التَّرْتِيبِ لِمَا ذَكَرْته.
وَظَهَرَ لَك مِمَّا مَرَّ أَنَّ الدُّخُولَ فِي الصَّفِّ مَعَ عَدَمِ السُّتْرَةِ أَوْلَى مِنْ الْوُقُوفِ مُنْفَرِدًا مَعَ وُجُودِهَا.
نَعَمْ، مَنْ أَحْرَمَ بِلَا سُتْرَةٍ وَأَمْكَنَهُ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ - أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ بِفِعْلٍ قَلِيلٍ إلَى سُتْرَةٍ مُعْتَبَرَةٍ، وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ خُرُوجُهُ مِنْ الصَّفِّ - كَانَ الْأَوْلَى لَهُ التَّقْدِيمَ أَوْ التَّأْخِيرَ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْقَلِيلَ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ سُنَّةٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: يُسَنُّ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ سَعَةً إذَا أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا أَنْ يَجُرَّ فِي الْقِيَامِ آخَرَ مِنْ الصَّفِّ إلَيْهِ؛ لِيَصْطَفَّ مَعَهُ، وَكَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَقُمْت عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ.» وَمِنْ ثَمَّ قُلْتُ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الرَّوْضِ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الْآتِي أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْإِمَامِ إذَا فَعَلَ أَحَدٌ مِنْ الْمَأْمُومِينَ خِلَافَ السُّنَّةِ أَنْ يُرْشِدَهُ إلَيْهَا بِيَدِهِ أَوْ غَيْرِهَا، لَكِنْ إنْ وَثِقَ مِنْهُ بِالِامْتِثَالِ.
وَقِيَاسُ الْمَأْمُومِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ غَيْرُ بَعِيدٍ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ هَذَا مُسْتَثْنَى أَيْضًا مِنْ كَرَاهَةِ الْفِعْلِ الْقَلِيلِ، ثَمَّ رَأَيْته فِي الْمُهَذَّبِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ عَلَّمَهُ الْإِمَامُ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِابْنِ عَبَّاسٍ.
وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته لَكِنْ ظَاهِرُهُ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالْجَاهِلِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ لَكِنْ قَضِيَّةُ قَوْلِ شَرْحِهِ: فَإِنْ لَمْ يَتَحَوَّلْ الْمَأْمُومُ اُسْتُحِبَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَهُ، وَقَوْلُ التَّحْقِيقِ: فَإِنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ خَلْفَهُ نُدِبَ التَّحَوُّلُ إلَى الْيَمِينِ، وَإِلَّا فَلْيُحَوِّلْهُ الْإِمَامُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَهُوَ الْأَوْجَهُ، انْتَهَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ تَرَدُّدٌ فِي كُلِّ صَفٍّ هَلْ هُوَ سُتْرَةٌ لِمَا خَلْفَهُ إذَا كَانَ بَيْنَ كُلِّ صَفَّيْنِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ؟ وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ أَنَّهُ سُتْرَةٌ؛ وَمِنْ ثَمَّ قُلْتُ: فِي الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ: قَالَ فِي التَّتِمَّةِ: وَلَا يُسْتَحَبُّ السَّتْرُ بِآدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ؛ لِشَبَهِهِ بِعِبَادَةِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ.
وَفِي مُسْلِمٍ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ إلَيْهَا فَيُصَلِّي إلَيْهَا» ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَفْعَلُهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ فَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْ الشَّافِعِيَّ وَمَذْهَبُهُ اتِّبَاعُ الْحَدِيثِ فَيَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِهِ؛ إذْ لَا مُعَارِضَ لَهُ. وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ الْمُرُورُ؛ لِأَنَّ السَّتْرَ بِذَلِكَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ بَلْ يُكْرَهُ إنْ اسْتَقْبَلَ الْآدَمِيُّ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً وَرَاءَهُ. وَمِنْهُ يُؤْخَذُ أَنَّ كُلَّ مَا كُرِهَ اسْتِقْبَالُهُ كَجِدَارٍ نَجِسٍ أَوْ مُزَوَّقٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ السَّتْرُ بِهِ فَلَا يَحْرُمُ الْمُرُورُ، وَأَنَّ كُلَّ صَفٍّ يَكُونُ سُتْرَةً لِمَا خَلْفَهُ إنْ قَصَدُوا الِاسْتِتَارَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ فِيهِ شَبَهٌ بِمَا مَرَّ عَنْ التَّتِمَّةِ اهـ.
وَحَيْثُ قُلْنَا: يُنْدَبُ لِمَنْ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَقْرُبَ مِنْ السُّتْرَةِ، فَلْيُرَاعِ التَّرْتِيبَ الَّذِي ذَكَرُوهُ، وَهُوَ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْجِدَارَ أَوْ نَحْوَهُ كَالْعَمُودِ؛ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُمَا فَالشَّاخِصُ مِنْ نَحْوِ عَصًا أَوْ مَتَاعٍ يَجْمَعُهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ طُولُهُ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ فَأَكْثَرَ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ افْتَرَشَ مُصَلًّى كَسَجَّادَةٍ؛ فَإِنْ عَجَزَ خَطَّ خَطًّا مِنْ قَدَمَيْهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ طُولًا لَا عَرْضًا كَمَا رَجَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ السُّتْرَةَ لَا تَحْصُلُ إذَا جَعَلَهُ عَرْضًا مِنْ يَمِينِهِ إلَى يَسَارِهِ أَوْ عَكْسِهِ لَكِنَّ مُقْتَضَى كَلَامِ الْحَاوِي وَفُرُوعِهِ حُصُولُهَا.
وَاعْتَمَدَهُ بَعْضُهُمْ، وَحَمَلَ عِبَارَةَ الرَّوْضَةِ عَلَى الْأَكْمَلِ، وَعِبَارَةَ غَيْرِهَا عَلَى حُصُولِ أَصْلِ السُّنَّةِ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَمَا ذَكَرْته