للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَالْمُوَسْوِسُونَ كَهَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّخْصَ مِنْهُمْ كَمَا شَاهَدْنَاهُ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجْعَلُ يَدَهُ أَوْ بَدَنَهُ دَاخِلَ الْمَاءِ وَلَا يَزَالُ يَغْمِسُهَا الْمَرَّات الْكَثِيرَةَ الَّتِي تَزِيدُ عَلَى الْمِائَةِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ ارْتِفَاعَ حَدَثِهَا بَلْ قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ مِنْهُ وَلَا يَتَيَقَّنُ رَفْعَ حَدَثٍ كَمَا حَكَى لِي بَعْضُ الثِّقَات أَنَّ مُوَسْوِسَيْنِ أَجْنَبَا فَخَرَجَا إلَى بَحْرِ النِّيلِ لِيَغْتَسِلَا فِيهِ فَوَصَلَا إلَيْهِ بَعْدَ الْفَجْرِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ انْزِلْ انْغَمِسْ فِي الْمَاءِ وَأَنَا أَعُدُّ لَك وَأُخْبِرُك هَلْ عَمَّ الْمَاءُ رَأْسَك أَوْ لَا فَنَزَلَ وَاسْتَمَرَّ يَنْغَمِسُ وَذَلِكَ يَقُولُ لَهُ بَقِيَ عَلَيْك شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ رَأْسِك لَمْ يَعُمّهُ الْمَاءُ فَلَا زَالَ كَذَلِكَ إلَى قُرْبِ الظُّهْرِ فَتَعِبَ وَطَلَعَ مِنْ الْمَاءِ وَلَمْ يَتَيَقَّنْ رَفْعَ جَنَابَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِلْآخَرِ انْزِلْ وَأَنَا أَعُدُّ لَك فَنَزَلَ وَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ الْأَوَّلُ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ كَمَا قَالَ لَهُ وَاسْتَمَرَّ إلَى قُرْبِ الْغُرُوبِ وَلَمْ يَتَيَقَّنْ أَيْضًا رَفْعَ جَنَابَتِهِ فَطَلَعَ وَرَجَعَا شَاكَّيْنِ فِي بَقَاءِ جَنَابَتِهِمَا وَتَرَكَا صَلَاةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَهَذَا يُشْبِهُ طَرِيقَةَ الْكَفَرَةِ الْمَذْكُورِينَ وَاعْتِقَادَهُمْ بَلْ أَقْبَحُ وَأَفْحَشُ وَقَدْ قَوِيَ الْوَسْوَاسُ عَلَى بَعْضِ مَنْ أَدْرَكْته حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ عِيَالِهِ وَأَوْلَادِهِ فَارًّا عَلَى وَجْهِهِ فِي الْبَرَارِي فَلَمْ يُدْرَ لَهُ الْآنَ مَكَانٌ وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ خَبَرٌ وَبِالْجُمْلَةِ هُوَ دَاءٌ عُضَالٌ قَلَّ مَنْ يَقَعُ فِي وَرْطَتِهِ وَيَنْجُو مِنْهَا وَالْجُنُونُ دُونَهُ بِكَثِيرٍ فَإِنَّهُ يُنْحِلُ الْبَدَنَ وَيُذْهِبُ الْعَقْلَ بَلْ وَالْإِدْرَاكَ وَالْفَهْمَ وَيَصِيرُ الْمُبْتَلَى بِهِ كَالْبَهِيمَةِ لَا يَهْتَدِي لِخَيْرٍ قَطُّ.

وَلَا تَصِحُّ لَهُ عِبَادَةٌ عَلَى مَذْهَبِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ لِاسْتِيلَاءِ الشَّيْطَانِ عَلَى فِكْرِهِ وَجَعْلِهِ سُخْرِيَةً وَهُزُءًا يَلْعَبُ بِهِ كَيْفَ أَرَادَ وَقَدْ شَاهَدْت أَيْضًا مَنْ لَهُ فِطْنَةٌ وَذَكَاءٌ وَفَهْمٌ دَقِيقٌ فِي الْعُلُومِ وَجَمَالٌ مُفْرِطٌ اُبْتُلِيَ بِهِ حَتَّى انْتَحَلَ وَتَغَيَّرَتْ صُورَتُهُ الْآدَمِيَّةُ وَتَوَحَّشَ وَاعْتَزَلَ النَّاس جُمْلَة وَلَمْ يَصِرْ لَهُ مَأْوًى إلَّا بُيُوت الْأَخْلِيَةِ وَالْمَاء الَّذِي عِنْدهَا فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْأَئِمَّةُ وَبَالَغُوا فِيهِ وَهُوَ حَقِيقٌ بِذَلِكَ وَقَدْ قَالَ فِي الْمَجْمُوع مِنْ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ غَسْلُ الثَّوْبِ الْجَدِيدِ.

وَقَدْ قَالُوا يُكْرَهُ إمَامَةُ الْمُوَسْوِسِ. وَأَمَّا مَحْمُودٌ وَهُوَ الِاحْتِيَاطُ لِلْعِبَادَةِ بِأَنْ لَا يُوقِعَهَا إلَّا عَلَى وَجْهٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ يَنْبَغِي الْوَرَعُ فِي الْعِبَادَاتِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُجَاوِزَ طَرِيقَةَ السَّلَفِ فَقَدْ كَانُوا يَمْشُونَ حُفَاةً وَيُصَلُّونَ مِنْ غَيْرِ غَسْلِ أَرْجُلِهِمْ وَقَدْ أَكَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَانِي الْمَجُوسِ وَلَبِسَ جُبَّةً مِنْ نَسْجِهِمْ وَأَحْوَالُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ شَهِيرَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى الْمُوَفَّقِ.

وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأُحِبُّ أَنْ يُغْسَلَ حَصَى الْجِمَارِ وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ مَحَلَّ كَوْن غَسْلِ الثَّوْبِ الْجَدِيدِ مَذْمُومًا مَا لَمْ يَغْلِبْ احْتِمَالُ النَّجَاسَةِ فِيهِ وَقَوْلُهُ وَالظَّنُّ إلَخْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا بَلْ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّتُنَا وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ الطَّوَافُ الرَّاجِحُ سَوَاءٌ كَانَ الرُّجْحَان نَشَأَ مِنْ التَّكْرَارِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ إلَخْ صَحِيحٌ وَالْكَلَامُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْعِبَارَة فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّفَ التَّذْكِيرِ وَلَا أَنْ يُخْطِرَهُ بِبَالِهِ.

وَأَمَّا إذَا وَقَعَ التَّذَكُّرُ فَوَاضِحٌ سَوَاءٌ كَانَ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ أَوْ مُبْهَمٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِقَضِيَّتِهِ وَأَمَّا إذَا وَقَعَ التَّرَدُّدُ فَإِنْ زَالَ فَوَاضِحٌ أَيْضًا أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَزُلْ وَكَانَ فِي وَاجِبٍ تَعَيَّنَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِقَضِيَّتِهِ سَوَاءٌ كَانَ وَهْمًا أَيْ: طَرَفًا مَرْجُوحًا أَمْ ظَنًّا أَيْ: طَرَفًا رَاجِحًا أَمْ شَكًّا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ سَوَاءٌ أَنَشَأَ مِنْ سَبَبٍ مُشَوَّشٍ أَمْ لَا وَمَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ أَئِمَّتُنَا كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ.

وَقَوْلُهُ وَإِذَا شَرَعَ الْمُصَلِّي إلَخْ غَيْرُ صَحِيحٍ كَيْفَ وَقَدْ أَجْمَعَ أَئِمَّتُنَا وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ التَّحَرُّم وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمُقَارَنَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوص وَقَدْ تَعْزُبُ النِّيَّةُ لِشِدَّةِ اشْتِغَالِ النَّفْسِ أَوْ تَعَلُّقِهَا بِمَأْلُوفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلِذَا لَمْ يَكْتَفُوا بِوُجُودِهَا عِنْدَ الْمُقَدِّمَاتِ بَلْ اشْتَرَطُوا وُجُودَهَا حَقِيقَةً عِنْدَ أَوَّلِ الْمَقَاصِدِ. وَقَوْلُهُ وَقَدْ عَرَفَ نَفْسَهُ إلَخْ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا تَقَرَّرَ أَوَّلًا عَلَى أَنَّ حَصْرَهُ الْوَسْوَاسَ فِي هَذَا مُخَالِفٌ لِتَعْرِيفِهِ لَهُ بِمَا ذَكَرَهُ وَإِلَّا فَكِلَا الْأَمْرَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَكَذَا قَوْلُهُ وَمُجَرَّدُ التَّكْبِيرِ إلَخْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الْقُدْوَةِ بِمَنْ شَكَّ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ لِأَجْلِ قِلَّةِ مُحَافَظَتِهِ عَلَى شَرَائِطِ الصَّلَاةِ وَأَرْكَانِهَا هَلْ تَصِحُّ الْقُدْوَةُ بِهِ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنَّ الْقُدْوَةَ تَصِحُّ بِمَنْ ذُكِرَ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ ارْتَكَبَ مُبْطِلًا لِصَلَاتِهِ فِي اعْتِقَادِ الْمَأْمُومِ.

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>