للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمَحِلَّ هُنَا شَبِيه بِالْآلَةِ وَأَكْثَرُ آلَةِ الْمَسْحِ ثَلَاثُ أَصَابِعَ فَيَصِحُّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِ الْكُلِّ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ قِيَاسًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْمَسْحِ وَلَا يَخْفَى هَذَا عَلَى الْمُتَفَطِّنِ الْمُتَأَمِّلِ وَأَرَادَ الشَّافِعِيَّةُ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ لَا أَقَلَّ مِنْهَا إذْ أَقَلُّ مِنْهَا غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ وَلِهَذَا لَمْ يُثْبِتُوا عَلَيْهِ الْجِنَايَةَ.

وَوَجْه إرَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مِنْهُ فَإِزَالَةُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ جُزْءٌ مِنْ إزَالَةِ الْمَحَلِّ وَكَذَلِكَ إزَالَةُ الرُّبْعِ أَوْ الْخُمُسِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَكِنَّهُمْ أَخَذُوا احْتِيَاطًا أَيْضًا مَا هُوَ أَقَلُّ مَرْتَبَةً فِي مَرَاتِبِ الِاحْتِمَالَاتِ فَيَصِحُّ إسْنَادُ إزَالَةِ شَعْرِ الرَّأْسِ إذَا أَزَالَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ لِأَنَّ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ الْأُولَى فَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ وَهُوَ الْمَجَازُ فِي النِّسْبَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ جَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ فِي الطَّرَفِ لَكِنْ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ هُنَا أَوْلَى لِأَنَّ الْمَجَازَ فِي الطَّرَفِ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ حَتَّى إنَّ بَعْضَ أَرْبَابِ الْعَرَبِيَّةِ اسْتَنْكَرَ الْمَجَازَ الْعَقْلِيَّ هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

(فَأَجَابَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَنَفَعَ بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ بِمَا صُورَتُهُ أَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ قِيَاسًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْمَسْحِ فَمَمْنُوعٌ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ بِوُجُوهٍ وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ أَقَلَّ الْوَاجِبِ فِي الْحَلْقِ عِنْدَنَا ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا بُدَّ مِنْ مَسْحِ الْجَمِيعِ وَأَمَّا أَحْمَدُ فَالْوَاجِبُ فِي الْمَسْحِ عِنْدَهُ الْجَمِيعُ وَفِي الْحَلْقِ الْأَكْثَرُ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَمَشَى فِي الْبَابَيْنِ عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ وَلِخَفَاءِ ذَلِكَ خَالَفَهُ صَاحِبُهُ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ لَا بُدَّ فِي الْحَلْقِ مِنْ النِّصْفِ وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِتَأْخُذُوا عَنِّي جَمِيعَ مَنَاسِكِكُمْ قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى حَالِقًا بِدُونِ أَكْثَرِهِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: ٢٧] وَالْمُرَادُ شَعْرُ رُءُوسِكُمْ وَالشَّعْرُ اسْمُ جِنْسٍ أَقَلُّهُ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى حَلْقًا يُقَالُ حَلَقَ رَأْسَهُ وَرُبْعَهُ وَثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مِنْهُ فَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يُسَمَّى حَلْقُ شَعْرٍ.

وَأَمَّا حَلْقُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمِيعَ رَأْسِهِ فَقَدْ أَجْمَعنَا عَلَى أَنَّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَا يُسَمَّى حَلْقًا بِدُونِ أَكْثَرِهِ فَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ إنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ إنْكَارٌ لِلْحِسِّ وَاللُّغَةِ وَالْعُرْفِ اهـ وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالرُّبْعِ هُنَا لَمْ يَظْهَرْ دَلِيلُهُ وَلَعَلَّهُ قِيَاسُ مَا هُنَا عَلَى مَا هُنَاكَ لِأَنَّ الْمَلْحَظَ فِي الْبَابَيْنِ مُتَّحِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُوجِبُ عَلَى مَنْ لَا شَعْرَ بِرَأْسِهِ أَنْ يُمِرَّ الْمُوسَى عَلَيْهِ وَيَحْتَجُّ بِأَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالرَّأْسِ فَإِذَا فَقَدَ الشَّعْرَ انْتَقَلَ الْوُجُوبُ إلَى نَفْسِ الرَّأْسِ كَالْمَسْحِ فِي الْوُضُوءِ وَبِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهَا فَوَجَبَ التَّشْبِيهُ فِي أَفْعَالِهَا كَالصَّوْمِ فِيمَا إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ فِي أَثْنَاءِ يَوْمِ الشَّكِّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ.

وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ فَرْضٌ تَعَلَّقَ بِجُزْءٍ مِنْ الْآدَمِيِّ فَسَقَطَ بِفَوَاتِ الْجُزْءِ كَالْيَدِ فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّ غَسْلَهَا يَسْقُطُ بِقَطْعِهَا لَا يُقَالُ الْفَرْضُ هُنَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِالْيَدِ وَقَدْ سَقَطَتْ وَهُنَا مُتَعَلِّقٌ بِالرَّأْسِ وَهُوَ بَاقٍ لِأَنَّا نَقُولُ بَلْ الْفَرْضُ هُنَا مُتَعَلِّقٌ بِالشَّعْرِ فَقَطْ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ عَلَى بَعْضِ رَأْسِهِ شَعْرٌ دُونَ بَعْضِ لَزِمَهُ الْحَلْقُ فِي الشَّعْرِ وَلَا يَكْفِيه الِاقْتِصَارُ عَلَى إمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى مَا لَا شَعْرَ عَلَيْهِ وَلَوْ تَعَلَّقَ الْفَرْضُ بِهِ لَأَجْزَأَ وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِ مَا هُنَا عَلَى الْمَسْحِ فِي الْوُضُوءِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْفَرْضَ هُنَاكَ تَعَلَّقَ بِالرَّأْسِ قَالَ تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: ٦] وَهُنَا تَعَلَّقَ بِالشَّعْرِ بِدَلِيلِ مَا مَرَّ مِنْ الْآيَةِ الْأُخْرَى وَمَا بَعْدَهَا الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِنَا لِأَنَّا نَقُولُ إلَخْ وَالثَّانِي أَنَّهُ إذَا مَسَحَ بَشَرَةَ الرَّأْسِ يُسَمَّى مَاسِحًا فَيَلْزَمُهُ وَإِذَا أَمَرَّ الْمُوسَى لَا يَكُونُ حَالِقًا وَالْجَوَابُ عَلَى الْقِيَاسِ عَلَى الصَّوْمِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِمْسَاكِ جَمِيعِ النَّهَارِ فَبَقِيَّةُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ وَهُنَا إنَّمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِإِزَالَةِ الشَّعْرِ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْهُ وَعُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ فَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ بَيْنَ الْبَابَيْنِ.

وَبَيَانُهُ أَنَّ آيَةَ الْمَسْحِ إنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِالْبَشَرَةِ أَصَالَةً لِأَنَّهَا حَقِيقَةُ الرَّأْسِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ التَّعَلُّقِ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بِأَنَّهُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْبَشَرَةِ وَيُعَضِّدُهُ الْإِجْمَاعُ مِنَّا وَمِنْهُمْ عَلَى وُجُوبِ التَّعْمِيمِ فِي التَّيَمُّمِ مَعَ اسْتِوَاءِ آيَتِهِ وَآيَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي لَفْظِ الْفِعْلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>