الِاكْتِفَاءُ بِالْأَكْثَرِ وَوَجْهُ إرَادَةِ الرُّبْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا صَارَتْ الْبَاءُ فِي صِلَةِ الْمَسْحِ مَانِعَةٌ عَنْ إرَادَةِ الْكُلِّ بِالْأَكْثَرِ كَمَا بُيِّنَ فِي مَحَلِّهِ صَارَتْ الْآيَةُ مُجْمَلَةً فَجَعَلُوهَا مُبَيَّنَةً بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ» وَعَلَى إمَّا لِتَأْكِيدِ الِاسْتِيعَابِ أَوْ زَائِدَةٌ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ نَاصِيَتَهُ» عَلَى مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَفِعْلُ الْمَسْحِ إذَا تَعَلَّقَ بِالْمَحَلِّ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ كَمَا بُيِّنَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ثُمَّ قَدْ بُيِّنَ فِي عِلْمِ الْحِكْمَةِ أَنَّ الرَّأْسَ مُرَكَّب مِنْ أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ النَّاصِيَةِ وَالْفَوْدَيْنِ وَالْعَقِبِ فَالنَّاصِيَةُ وَإِنْ اُحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ هِيَ صُغْرَى بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ أَجْزَائِهِ لَكِنْ قَدَّرُوهَا تَخْمِينًا بِالرُّبْعِ لِلِاحْتِيَاطِ خَوْفَ التَّنْقِيصِ مِنْ الْأَصْلِ وَمِثْلُ هَذَا الِاعْتِبَارِ تَخْمِينًا أَوْ تَقْرِيبًا شَائِعٌ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِ الْمُجِيبِ لَمْ يُثْبِتُوا عَلَيْهِ الْجِنَايَةَ فَمُرَادُهُ مِنْ الْجِنَايَةِ الدَّمُ وَهُوَ الْعُرْفُ فِي الْمَنَاسِكِ وَدُونَ الدَّمِ يُسَمُّونَهُ صَدَقَةً وَإِيرَادُهَا فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ لِطَلَبِ الِاخْتِصَارِ وَالْعِلْمِ عِنْدَ اللَّهِ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ فَلَمَّا رُفِعَتْ الْوَرَقَةُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا ذَلِكَ لِشَيْخِنَا فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ كَتَبَ عَلَيْهَا جَوَابًا صُورَتُهُ اعْلَمْ أَنَّ مُنْشَأَ هَذِهِ الرُّدُودِ وَالْإِشْكَالَاتِ عَدَمُ صِدْقِ التَّأَمُّلِ مَعَ الِاتِّكَالِ عَلَى مَا يَسْبِقُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةِ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ كَمَا سَتَعْلَمُهُ مِمَّا سَامَرَهُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ مَعَ بَعْضِ الْبَسْطِ فِيهِ لِمَا أَنَّ الْمَقَامَ مُحْوِجٌ إلَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ الْإِضْمَارَ وَالْحَذْفُ لَا يَكُونُ إلَخْ مِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ فَإِنَّ نُصُوصَ الْأَئِمَّةِ قَاضِيَةٌ بِرَدِّهِ سِيَّمَا نَصُّ إمَامِهِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ آثَرَ الْإِضْمَارَ عَلَى النَّقْلِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: ٢٧٥] فَقَالَ أَيْ أَخْذَهُ وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ مَثَلًا فَإِذَا أُسْقِطَ صَحَّ الْبَيْعُ وَارْتَفَعَ الْإِثْمُ وَعَكَسَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرُهُ ذَلِكَ فَآثَرُوا النَّقْلَ عَلَى الْإِضْمَارِ فَقَالُوا نَقْلُ الرِّبَا شَرْعًا إلَى الْعَقْدِ فَهُوَ فَاسِدٌ وَإِنْ أُسْقِطَتْ الزِّيَادَةُ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ مَثَلًا وَالْإِثْمُ فِيهَا بَاقٍ فَانْظُرْ كَوْنَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَضْمَرَ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى بَلْ ظُهُورِهِ مَعَ عَدَمِ الْإِضْمَارِ وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: ٤] أَنَّ فِيهِ إضْمَارًا أَيْ طَعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَهُوَ سِتُّونَ مُدًّا فَيَجُوز إعْطَاؤُهُ الْمِسْكِينَ الْوَاحِدَ سِتِّينَ مُدًّا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا فَلَا يَجُوزُ إعْطَاؤُهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِأَنَّ الْآيَةَ ظَاهِرَةٌ فِيهِ وَمِنْ ثَمَّ اُعْتُرِضَ الْقَوْلُ بِالْإِضْمَارِ بِأَنَّهُ اُعْتُبِرَ فِيهِ مَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْ الْمُضَافِ الْمُضْمَرِ وَأُلْغِيَ فِيهِ مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ الظَّاهِرَةِ قَصَدَهُ بِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَبَرَكَتِهِمْ أَيْضًا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: ١٧٩] فَقَدَّرَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مُضْمَرًا أَيْ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ لِأَنَّ بِهَا يَحْصُلُ الِانْكِفَافُ عَنْ الْقَتْلِ فَيَكُونُ الْخِطَابُ عَامًّا وَلَمْ يُقَدِّرْ ذَلِكَ آخَرُونَ فَقَالُوا فِي الْقِصَاصِ نَفْسِهِ حَيَاةٌ لِوَرَثَةِ الْقَتِيلِ الْمُقْتَصِّينَ بِدَفْعِ شَرِّ الْقَاتِلِ الَّذِي صَارَ عَدُوًّا لَهُمْ فَيَكُونَ مُخْتَصًّا بِهِمْ فَتَأَمَّلْ صَنِيعَ الْأَئِمَّةِ وَتَصَرُّفَهُمْ فِي النُّصُوصِ بِالْإِضْمَارِ تَارَةً وَعَدَمِهِ أُخْرَى مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى بَلْ ظُهُورُهُ مَعَ عَدَمِ الْإِضْمَارِ فَازْدَدْ بِذَلِكَ تَعَجُّبًا مِمَّا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ وَمِنْ فِرَارِهِ عَنْ نُصُوصِ الْأَئِمَّةِ هَذِهِ وَأَمْثَالِهَا إلَى النَّقْلِ عَمَّنْ لَا يُجْدِيهِ النَّقْلُ عَنْهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ إذْ أَهْلُهُ الْمُجْتَهِدُونَ وَمَنْ دَانَاهُمْ.
فَإِنْ قُلْت إنَّمَا سَلَكَ الْإِضْمَارَ مَنْ ذَكَرَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ظَهَرَ لَهُ وَلَمْ يَصِحَّ اللَّفْظُ لِمُقْتَضَى مَا ظَهَرَ لَهُ إلَّا بِالْإِضْمَارِ كَانَ الْإِضْمَارُ مُتَعَيِّنًا وَلَمْ يَصِحَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ بِدُونِهِ فَهُوَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمُسْتَشْكِلُ فَلَا يَرِدُ كَلَامُ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورُ عَلَيْهِ نَقْضًا قُلْت بَلْ هُوَ وَارِدٌ عَلَيْهِ نَقْضًا وَرَدًّا لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى الْإِضْمَارِ إذَا كَانَ بِاعْتِبَارِ مَا ظَهَرَ مِنْ الدَّلِيلِ الْمُتَوَقِّفِ هُوَ عَلَيْهِ كَانَ مَا سَلَكْنَاهُ فِي الْآيَةِ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَامَ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ فَأَضْمَرْنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ وَلَا يُقَالُ مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَكْفِي لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا السُّؤَالُ لَا يَتَوَجَّهُ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْحَامِلَ عَلَى الْإِضْمَارِ يُفَوَّضُ إلَى رَأْي الْمُجْتَهِدِ سَوَاءٌ أَظَهَرَ دَلِيلُهُ أَمْ لَا كَمَا مَرَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute