وَمَعْنَاهُ إنْ كَانَ مَالِكًا فَتَصَرُّفُهُ هَذَا صَحِيحٌ فَكَأَنَّهُ حَكَمَ بِصِحَّةِ تِلْكَ الصِّيغَةِ الصَّادِرَةَ مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَهُوَ نَافِعٌ فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا اهـ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ شَيْخِنَا فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ لِلْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ أَحَدُهَا ثُبُوتُ أَهْلِيَّةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِشُهْرَتِهِمَا أَوْ بِالْبَيِّنَةِ وَيَكْفِي فِي ثُبُوتِهَا قَبُولُ الْبَيِّنَةِ أَنَّهُ جَائِزُ التَّصَرُّفِ ثَانِيهَا وُجُودُ الصِّيغَةِ الْمُعْتَبَرَةِ ثَالِثُهَا ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ حَالَةَ الْعَقْدِ نَعَمْ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ بَلْ عَلَى ثُبُوتِ الْيَدِ خَاصَّةً لِلْمُقِرِّ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَهُ يُنَافِي الْإِقْرَارَ وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ فَلَهُ شَرْطَانِ ثُبُوتُ الْأَهْلِيَّةِ وَوُجُودُ الصِّيغَةِ فَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَخَصُّ مِنْ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ فَكُلُّ مَا جَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِالصِّحَّةِ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِالْمُوجَبِ وَلَا عَكْسَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ بِيَدِ غَيْرِهِ لِزَيْدٍ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ بِالْمُوجَبِ لَا بِالصِّحَّةِ فَقَوْلُ السُّبْكِيّ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ إلَّا أَنَّهُ دُونَهُ فِي الرُّتْبَةِ فِيهِ نَظَرٌ بَلْ الْحُكْمُ بِهِ حُكْمٌ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْبَيِّنَةُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَصَحِيحٌ أَوْ فَاسِدًا فَفَاسِدٌ اهـ فَمَعْنَى قَوْلِهِ إنْ كَانَ صَحِيحًا إلَخْ أَنَّهُ إنْ بَانَ وُجُودُ الشَّرْطِ الثَّالِثِ الْمُشْتَرَطِ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ فَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ صَحِيحٌ بَلْ وَأَقْوَى مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ.
وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الشَّرْطُ فَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ فَاسِدٌ إذْ لَا يُمْكِنُ تَرَتُّبُ الْآثَارِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الصِّيغَةِ دُونَ الْمِلْكِ لِمَا مَرَّ عَنْ السُّبْكِيّ أَنَّهُ إلْزَام الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِمَا عَلَيْهِ وَأَمَّا مَا لَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ إلْزَامُهُ بِهِ وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ إلْزَامُهُ بِهِ فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ لِمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ الْإِلْزَامُ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ إلَى آخِرِ مَا مَرَّ فِي تَعْرِيفِهِ وَلَقَدْ صَرَّحَ شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ وَنَاهِيكَ بِهِ مِنْ أَجِلَّاءِ الْأَصْحَابِ وَمُتَقَدِّمِيهِمْ بِمَا قَالَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ تِلْكَ الصِّيغَةِ حَيْثُ قَالَ لَوْ أَقَرَّ شَخْصٌ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي بِحَقٍّ فَقَالَ لَهُ أَلْزَمْتُكَ بِمُوجَبِ إقْرَارِكَ قِيلَ لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ الْحَقَّ وَاجِبٌ قَبْلَ إقْرَارِهِ وَقِيلَ بَلْ لَهُ فَائِدَةٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يَكُونُ مُخْتَلَفًا فِي صِحَّتِهِ فَإِذَا أَلْزَمَهُ بِهِ كَانَ حُكْمًا بِصِحَّتِهِ وَعَلَى هَذَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى إقْرَارِهِ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ وَلَا بَيِّنَتُهُ بَعْدَ الْإِلْزَامِ اهـ. وَإِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ الْإِلْزَامِ فَلَوْ أُلْزِمَ بَعْد غَيْبَةِ الْمُقِرِّ كَانَ كَالْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ اهـ.
وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مَا صَرَّحَ بِهِ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ التَّعْلِيلَ إنَّمَا يَكُونُ بِمُتَّفَقٍ عَلَيْهِ قَالَ الرَّافِعِيُّ لَكِنْ غَالِبًا وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إلَخْ دَالٌّ عَلَى الِاتِّفَاقِ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ صَرِيحَةٌ فِيمَا قُلْنَا فَإِنْ قُلْتَ فَلِمَ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ فِي عِلَّةِ الْأَوَّلِ قُلْتُ عِلَّةُ الْأَوَّلِ صَحِيحَةٌ أَيْضًا إلَّا أَنَّهَا لَا يَنْتُجُ مِنْهَا عَدَمُ الْفَائِدَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا الْقَائِلُ الْأَوَّلُ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ لَهَا فَائِدَةً أَيَّ فَائِدَةٍ وَلَوْلَا الِاتِّفَاقُ عَلَى تِلْكَ الْفَائِدَةِ لَمْ يَقُلْ بِهَا الثَّانِي وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خِلَافِ الْغَالِبِ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّوَهُّمَ مَدْفُوعٌ أَيْضًا بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْغَالِبِ بِأَنْ يُحْتَجَّ بِهِ حَتَّى يُعْلَمَ خُرُوجُ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْ ذَلِكَ الْغَالِبِ وَأَمَّا تَنْظِيرُ شَيْخِنَا فِي كَلَامِ السُّبْكِيّ الْمَذْكُورِ فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَ الشَّيْخِ بَلْ الْحُكْمُ حُكْمٌ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْبَيِّنَةُ فِيهِ إلَخْ مَرَّ عَنْ السُّبْكِيّ مَا يُصَرِّحُ بِهِ فَالسُّبْكِيُّ لَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ إنَّ عَلَى فَرْضِ وُجُودِ شَرْطِ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ فِي الْبَاطِنِ وَإِلَّا فَالسُّبْكِيُّ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ شَرْطَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ الثَّلَاثَةُ السَّابِقَةُ وَبِالْمُوجَبِ الْأَوَّلَانِ مِنْهَا فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ بِالِاسْتِلْزَامِ مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْتُهُ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ إنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنْ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِمَا قَرَّرْته مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ لَا يُحْتَمَلُ عَلَى فَرْضِ صِدْقِ الْبَيِّنَةِ وَالْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ يَحْتَمِلُهُ وَإِنْ فُرِضَ صِدْقُ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ شَهَادَتُهَا بِالْمِلْكِ فَعَلَى فَرْضِ صِدْقِهَا يُحْتَمَلُ انْتِفَاءُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فَاسِدًا وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا دَلَالَةَ لِذَلِكَ الْمُفْتِي فِي كَلَامِ شَيْخِنَا هَذَا لِمَا صَرَّحَ بِهِ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ يُشْتَرَط فِيهِ الشَّرْطَانِ السَّابِقَانِ وَمِنْ جُمْلَتِهِمَا وُجُودُ الصِّيغَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فَإِنْ قُلْتَ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْمُعْتَبَرَةِ قُلْتُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute