الْمَذْكُورَ رَأْيٌ مُغَايِرٌ لِلْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَإِنْ رَجَعَ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ الْقَوَاعِدِ وَالْمَأْخَذِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ الْتِزَامَ مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ فِيهِ مَنْعًا لَهُ مِمَّا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ الْتِزَامَ الرَّاجِحِ مِنْ مَذْهَبِهِ لِامْتِنَاعِ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِنْ الضَّعِيفِ فِي مَذْهَبِهِ فِي الْحُكْمِ وَالْإِفْتَاءِ كَمَا تَقَرَّرْ وَفِي الْخَادِمِ مَا حَاصِلُهُ إذَا حَكَمَ مُقَلَّدٌ بِمَذْهَبِ إمَامِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ نَفَذَ أَوْ بِمَا تَوَهَّمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحِيطَ بِهِ عِلْمًا لَمْ يَنْفُذْ وَإِنْ صَادَفَ الْحَقَّ أَوْ بِمَرْجُوحٍ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ فَإِنْ كَانَ مُتَبَحِّرًا لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّرْجِيحِ نَفَذَ وَإِلَّا فَلَا نَعَمْ إنْ فُرِضَ أَنَّهُ اعْتَقَدَ صِحَّةَ ذَلِكَ الْمَرْجُوحِ تَقْلِيدًا لِقَائِلِهِ وَلَهُ مَذْهَبٌ صَحِيحٌ لِدَلِيلٍ بِحَسَبِ حَالِهِ أَوْ أَمْرٍ دِينِيٍّ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ فَفِيهِ نَظَرٌ يُحْتَمَلُ بُطْلَانُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَجْهَ لَا يُقَلَّدُ قَائِلُهُ إلَّا إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا.
وَإِنَّمَا يُرْجَعُ إلَيْهِ لِكَوْنِ قَائِلِهِ يَرَى أَنَّهُ مَذْهَبُ إمَامِهِ فَإِذَا قَالَ الْجُمْهُورُ خِلَافَهُ كَانَ قَوْلُهُمْ مُقَدَّمًا عَلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا فَوَّضَ إلَيْهِ الْقَضَاءَ وَهُوَ مُقَلِّدٌ لِإِمَامٍ إلَّا لَيَحْكُمَ بِمَذْهَبِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ كَمَا لَا يَحْكُمُ بِقَوْلِ عَالِمٍ آخَرَ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ فَإِنَّ الْمُقَلِّدَ إذَا قَلَّدَ وَجْهًا ضَعِيفًا جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ فِي نَفْسِهِ وَأَمَّا فِي الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَأَمَّا مَا قَالَهُ آخِرًا فَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ فِي التَّوْلِيَةِ الْتِزَامَ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ وَجَوَّزْنَاهُ فَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ ذَلِكَ جَازَ اهـ وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ فَإِنَّ الْمُقَلِّدَ إذَا قَلَّدَ وَجْهًا إلَخْ ظَاهِرٌ فِي الْفَرْقِ الَّذِي قَدَّمْتُهُ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالْوَجْهِ الضَّعِيفِ مِنْ مَذْهَبِهِ وَالْحُكْمِ بِمَذْهَبِ الْغَيْرِ هَذَا كُلُّهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ الْعَامِّ أَمَّا الْخَاصُّ كَأَنْ وَلَّى شَافِعِيٌّ حَنَفِيًّا أَوْ مَالِكِيًّا فِي جُزْئِيَّةٍ تَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ النَّائِبِ فَقَطْ لَمْ يَجُزْ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ حَكَاهُ شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ وَاعْتَمَدَهُ الْقَاضِي كَمَالُ الدِّينِ عَصْرِيُّ أَبِي شَامَةَ شَيْخُ النَّوَوِيِّ فَأَبْطَلَ تَزْوِيجَ حَنَفِيٍّ صَغِيرَةً وَقَدْ أَذِنَ لَهُ شَافِعِيٌّ فِيهِ وَصَوَّبَ مَا فَعَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ.
وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيِّ امْتِنَاعُ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ الْإِذْنِ إلَّا إنْ نَصَّ لَهُ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ بِخُصُوصِهِ وَلَا يَكْفِي عُمُومُ التَّوْلِيَةِ وَأَيْضًا فَكَيْفَ يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ الْإِذْنُ فِيمَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ وَفَارَقَ التَّوْلِيَةَ الْعَامَّةَ بِأَنَّهَا تَجْعَلُهُ قَاضِيًا مُسْتَقِلًّا وَمُجَرَّدُ الْإِذْنِ اسْتِنَابَةٌ عَنْ الْمُنِيبِ فَكَيْفَ يَسْتَنِيبُ فِيمَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي ذَلِكَ أَخْذًا مِنْ اعْتِمَادِ شَيْخِهِ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَدَمَ النَّقْضِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ وَاعْتَمَدَهُ أَيْضًا أَبُو شَامَةَ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَلَوْ أَدَّى شَافِعِيًّا اجْتِهَادُهُ إلَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَضِيَّةٍ جَازَ وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُ مَنْ اعْتَزَى إلَى مَذْهَبٍ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِهِ لِتَوَجُّهِ التُّهْمَةِ وَهَذَا وَإِنْ اقْتَضَتْهُ السِّيَاسَةُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمَذْهَبِ وَتَمْيِيزِ أَهْلِهَا فَحُكْمُ الشَّرْعِ لَا يُوجِبُهُ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ حُكْمٍ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ اهـ وَكَالِاجْتِهَادِ فِي كَلَامِهِ التَّقْلِيدُ لِمَا مَرَّ عَنْ الشَّيْخَيْنِ وَبِهِ يُعْلَمُ مَا فِي قَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِغَيْرِ مَذْهَبِهِ فَإِنْ فَعَلَ نُقِضَ لِفَقْدِ الِاجْتِهَادِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ اهـ.
عَلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ عِلَّتِهِ أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَذْهَبِ إمَامِهِ لَا عَلَى جِهَةِ التَّقْلِيدِ لَهُ بَلْ اجْتِهَادًا مِنْ عِنْدِهِ وَلَقَدْ اُسْتُفْتِيَ التَّاجُ الْفَزَارِيّ وَأَهْلُ عَصْرِهِ عَنْ حَاكِمٍ حَكَمَ بِخِلَافِ مَذْهَبِ إمَامِهِ فَهَلْ يَنْفُذُ حُكْمُهُ مَعَ أَنَّهُ إنَّمَا يُوَلَّى لِلْحُكْمِ بِمَذْهَبِ إمَامِهِ.
فَأَجَابَ شَافِعِيَّانِ مِنْ مُعَاصِرِيهِ بِأَنَّهُ لَا يَنْفُذُ الْحُكْمُ فَخَطَّأَهُمَا التَّاجُ وَقَالَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فَسَدَتْ التَّوْلِيَةُ وَوَقَعَ لَهُ مَعَهُمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ دَارٍ مَرْهُونَةٍ بَاعَهَا الْحَاكِمُ فِي الدَّيْنِ ثُمَّ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهَا وَقْفٌ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مَصَارِفِهَا وَلَا كَيْفِيَّةِ وَقْفِهَا فَهَلْ يُنْقَضُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ بِذَلِكَ؟
فَأَجَابَ التَّاجُ وَجَمَاعَةٌ آخَرُونَ بِأَنَّهُ لَا يُنْقَضُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ الشَّمْسُ ابْنُ خَلِّكَانَ وَتَعَجَّبَ مِنْهُمْ فَنَاظَرَهُ التَّاجُ فَقَالَ الشَّمْسُ إنَّمَا بَاعَ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ وَقَدْ بَانَ خِلَافُهُ وَالْقَاضِي لَا يَبِيعُ الْوَقْفَ فَأَجَابَهُ التَّاجُ بِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَمَّ بِشُرُوطِهِ وَهُوَ يُصَانُ عَنْ النَّقْضِ مَا أَمْكَنَ وَالْوَقْفُ الْمَشْهُودُ بِهِ فِي حُكْمِ الْمُنْقَطِعِ وَفِي صِحَّتِهِ خِلَافٌ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْحُكْمِ الْمُبْرَمِ بِهَذَا الْأَمْرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute