اللَّهُ فَضِيحَةَ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى لِسَانِهِ وَبَنَانِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِمْ بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ التَّأَهُّلِ لِهَذَا الْمَنْصِبِ الْخَطِيرِ.
فَإِنْ قُلْتَ يُمْكِنْ أَنْ يُتَمَحَّلَ لَهُ عُذْرٌ وَإِنْ الْتَجَمَ وَخَرِسَ لَمَّا بَلَغَهُ هَذَا الِاعْتِرَاضُ وَهُوَ أَنَّ كَلَامَهُ هُنَا فِي مُطْلَقِ الْقَرَارِ وَفِيمَا يَأْتِي فِي قَرَارِ عُيُونِ مَكَّةَ قُلْتُ إنْ أَرَادَ أَنَّ مُطْلَقَ الْقَرَارِ مَمْلُوكٌ إلَّا قَرَارَ عُيُونِ مَكَّةَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً قَبِيحًا أَيْضًا لِأَنَّ كَلَامَهُمْ الَّذِي قَدَّمْتُهُ فِي الْبَابِ السَّادِسِ وَغَيْرِهِ مُوَضَّحًا مَبْسُوطًا يُبْطِلُهُ وَيَرُدُّهُ فَرَاجِعْهُ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَرَارَ تَارَةً يُمَلَّكُ وَتَارَةً لَا يُمَلَّكُ وَفِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ عُيُونِ الْحِجَازِ وَغَيْرِهَا عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ هُنَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ مُرَادَهُ مَا يَشْمَلُ قَرَارَ عُيُونِ الْحِجَازِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ وَالْحِيلَةُ إلَخْ فَائِدَةٌ لِأَنَّ الِاسْتِفْتَاءَ فِي عُيُونِ الْحِجَازِ.
فَإِذَا كَانَ قَرَارُهَا عِنْدَهُ لَا يُمَلَّكُ فَكَيْفَ يَعْلَمُ الْمُسْتَفْتَى حِيلَةً لَا يُمْكِنُهُ الْعَمَلُ بِهَا أَيْضًا فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ تَخْصِيصَ الْحِيلَةِ بِغَيْرِ عُيُونِ الْحِجَازِ بَطَلَ قَوْلُهُ وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَالْبَيْعُ فِي مَسْأَلَتِنَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ مَا قَدَّمَهُ إذَا كَانَ مَفْرُوضًا فِي غَيْرِ عُيُونِ الْحِجَازِ فَكَانَ يُعْلَمُ مِنْهُ حُكْمَ عُيُونِ الْحِجَازِ وَإِذْ قَدْ ظَهَرَ لَكَ أَنَّ كَلَامَهُ هَذَا مُصَرِّحٌ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِهِ مَا يَشْمَلُ عُيُونَ مَكَّةَ ظَهَرَ لَكَ وُقُوعُهُ فِي وَرْطَةِ التَّنَاقُضِ الصَّرِيحِ وَالتَّهَافُتِ الْقَبِيحِ وَكَانَ الْمَوْقِعُ لَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ كَلَامَهُمْ فِي الْقَرَارِ لِأَنَّ فِيهِ شِبْهَ تَنَاقُضٍ كَمَا قَدَّمْتُهُ لَكَ وَاضِحًا مَعَ الْجَوَابِ عَنْهُ فَلَمَّا لَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَتَحَصَّلْ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ تَكَلَّمَ فِيهِ بِهَوَسِهِ فَذَكَرَ أَوَّلَ جَوَابِهِ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ يُشْتَرَى وَأَنَّهُ الَّذِي تَتِمُّ بِهِ الْحِيلَةُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَاءِ ثُمَّ ذَكَرَ آخِرَ جَوَابِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ وَقَوْلُهُ كَانَ أَحَقَّ بِالْمَاءِ خَطَأٌ قَبِيحٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْقَرَارِ الْمَنْبَعَ الْمَمْلُوكَ بَطَلَ قَوْلُهُ كَانَ أَحَقَّ بِالْمَاءِ لِتَصْرِيحِهِمْ السَّابِقِ فِي الْبَابِ الْخَامِسِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ مَنْ مَلَكَهُ مَلَكَ الْمَاءَ.
وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْمَنْبَعَ الَّذِي لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ بَطَلَ قَوْلُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْقَرَارَ وَقَوْلُهُ كَانَ أَحَقَّ بِالْمَاءِ لِأَنَّ الْمَنْبَعَ إذَا كَانَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَا يَصِحُّ شِرَاؤُهُ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَحَقَّ بِمَائِهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَقَدَّمْتُهُ ثُمَّ أَيْضًا وَإِنْ أَرَادَ بِالْقَرَارِ الْمَحَلَّ الَّذِي يَصِلُ إلَيْهِ الْمَاءُ وَيَسْتَقِرُّ فِيهِ بَطَلَتْ حِيلَتُهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَهُ حِيلَةً لِاسْتِحْقَاقِ الْمَاءِ الْجَارِي وَإِنْ أَرَادَ بِالْقَرَارِ الْمَجْرَى احْتَاجَ إلَى قَرِينَةٍ لِأَنَّ الْبُلْقِينِيُّ فِي جَوَابِهِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ هَذَا الْمُجِيبُ وَأَضَرَّ بِهِ خَصَّ الْقَرَارَ بِالْمَنْبَعِ أَوْ بِمَا يَصِلُ إلَيْهِ الْمَاءُ وَيَسْتَقِرُّ فِيهِ أَيْضًا فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ يُبْطِلُهَا قَوْلُ الْبُلْقِينِيُّ الَّذِي اعْتَمَدَهُ هُوَ وَأَضَرَّ بِهِ جُمُودًا عَلَى ظَاهِرِهِ وَالْحِيلَةُ أَنْ يَقَعَ الْبِيَعُ عَلَى الْقَرَارِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النَّبْعِ فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَسَادَ وَالتَّنَاقُضَ الْوَاقِعَ لِهَذَا الْمُجِيبِ فِي أَقَلِّ مِنْ سَطْرٍ وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي عَبَّرُوا بِهِ فِي الْحِيلَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْقَنَاةَ أَوْ جُزْءًا مِنْهَا فَيَكُونَ أَحَقَّ بِالْمَاءِ وَهَذَا تَعْبِيرٌ صَحِيحٌ وَلَمَّا لَمْ يَفْهَمْ هَذَا الْمُجِيبُ الْفَرْقَ بَيْنَ التَّعْبِيرِ بِالْقَنَاةِ وَالتَّعْبِيرِ بِالْقَرَارِ وَلَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا تَقَرَّرَ عَبَّرَ بِالْقَرَارِ تَابِعًا لِلْبُلْقِينِيِّ فِي تَعْبِيرِهِ بِهِ فِي حِيلَتِهِ وَبِقَوْلِهِ كَانَ أَحَقَّ بِالْمَاءِ تَابِعًا لَهُمْ فِي تَعْبِيرِهِمْ بِهِ فِي حِيلَتِهِمْ فَجَعَلَ حِيلَتَهُ مُلَفَّقَةً مِنْ حِيلَةِ الْبُلْقِينِيُّ وَحِيلَتِهِمْ فَوَقَعَ فِي وَرْطَةِ الْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ.
وَهَذَا شَأْنُ مَنْ يُلَفِّقُ كَلِمَاتٍ مِنْ عِبَارَاتٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَأَمَّلَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ التَّلْفِيقِ مِنْ الْفَسَادِ إذْ الْقَرَارُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ السَّابِقَيْنِ حَقِيقَةً وَعَلَى الْمَجْرَى تَجَوُّزًا فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَنْبَعُ الْمَمْلُوكُ كَانَ مِلْكُهُ مُسْتَلْزِمًا لِمِلْكِ الْمَاءِ وَهُوَ مَا أَرَادَهُ الْبُلْقِينِيُّ بِحِيلَتِهِ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْأَخِيرَانِ كَانَ مِلْكُهُ غَيْرَ مُسْتَلْزِمٍ لِمِلْكِ الْمَاءِ لَكِنَّهُ يَكُونُ سَبَبًا لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِهِ وَهُوَ مَا أَرَادُوهُ بِحِيلَتِهِمْ وَلِذَا لَمَّا عَبَّرُوا بِالْقَنَاةِ وَنَحْوِهَا عَبَّرُوا بِأَحَقِّيَّةِ الْمَاءِ فَلَوْ تَبِعَهُمْ فِي التَّعْبِيرِ بِالْقَنَاةِ أَوْ الْمَجْرَى لَسَلِمَ مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: ٤٠] وَقَوْلُهُ إذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَالْبَيْعُ فِي مَسْأَلَتِنَا غَيْرُ صَحِيحٍ إلَخْ فَاسِدٌ لِأَنَّ مَا قَدَّمَهُ لَا يُفِيدُ عَدَمَ الصِّحَّةِ فِي مَسْأَلَتِهِ وَإِنَّمَا الَّذِي يُفِيدُهُ عَلَى زَعْمِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ وَقَوْلُهُ لَا يُرَادُ مِنْهُ فِيمَا أَعْلَمُ فِي الْعَادَةِ بِمَكَّةَ إلَّا بَيْعَ الْمَاءِ مُقَدَّرًا بِزَمَنٍ يُقَالُ عَلَيْهِ كَأَنَّ هَذَا الْمُجِيبَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى آدَابِ الْمُفْتِي وَإِلَّا لَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ إذْ مِنْهَا أَنْ لَا يَكْتُبَ فِي الْوَاقِعَةِ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ بَلْ عَلَى مَا فِي السُّؤَالِ أَوْ يَقُولَ إنْ كَانَ كَذَا فَحُكْمُهُ كَذَا.
فَعَلِمَ أَنَّ جَزْمَهُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى وَتَرْتِيبَهُ بَقِيَّةَ جَوَابِهِ عَلَيْهَا خَطَأٌ فَاحِشٌ حَمَلَهُ عَلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute