مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ الْحَاكِمِ فِي بَابِ الْإِلْحَاقِ بِالنَّفْسِ وَبِالْغَيْرِ فَإِنَّ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ لَا تَنْتَفِي إلَّا عِنْدَ مُوَافَقَةِ مَذْهَبِ الْحَاكِمِ لِمَذْهَبِ الْمُقِرِّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِلَّا فَتِلْكَ الِاحْتِمَالَاتُ قَائِمَةٌ فَلَا يُفِيدُ إقْرَارُهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الْغَالِبَةَ فِي الْإِقْرَارِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - غَالِبَ أَحْكَامِهِ أَوْ جَمِيعَهَا أَنَّهُ يَطْرَحُ الشَّكَّ وَيَأْخُذُ بِالْيَقِينِ وَلَا يَسْتَعْمِلُ الْغَلَبَةَ كَمَا نَصَّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى ذَلِكَ
(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) عَنْ رَجُلٍ أَقَرَّ لِآخَرَ بِدَيْنٍ وَأَقَرَّ الْمُقَرُّ لَهُ أَنَّ مَالِي عِنْدَك دَيْنٌ وَلَا بَقِيَّةَ دَيْنٍ وَأَنَّ ابْنَ الصَّلَاحِ أَفْتَى بِتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ الْمُثْبَتَةِ فَهَلْ يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنِّي أَسْتَحِقُّ عَلَيْك أَلْفًا فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِي بَيِّنَةٌ أَنَّك أَقْرَرْت أَنَّ مَا لِي عِنْدَك دَعْوَى فَإِنَّهَا تُقَدَّمُ وَيُبْطِلُ دَعْوَاهُ أَمْ لَا وَمَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنَّ عِبَارَةَ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ رَجُلٌ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِدَيْنٍ مَعْلُومٍ وَأَقَرَّ الْمُقَرُّ لَهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُقِرِّ دَيْنًا وَلَا بَقِيَّةَ دَيْنٍ.
وَالْإِقْرَارَانِ جَمِيعًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ أَيَّهُمَا قَبْلُ فَبِأَيِّهِمَا يُعْمَلُ وَهَلْ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ أَجَابَ يُحْكَمُ بِبَيِّنَةِ الْإِقْرَارِ الْمُثْبِتَةِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِهِ شَغْلٌ إذْ لَوْلَاهُ لَجَعَلْنَا إقْرَارَ الْمُقَرِّ لَهُ تَكْذِيبًا لِلْمُقِرِّ وَلَا يُصَارُ إلَى ذَلِكَ بِالِاحْتِمَالِ وَإِذَا ثَبَتَ أَصْلُ الشُّغْلِ وَالْقَوْلِ بِتَصْدِيقِ الْإِقْرَارَيْنِ مَعًا فَلَا يُصَارُ إلَى تَصْدِيقِهِمَا بِتَقْدِيرِ تَأْخِيرِ الْإِقْرَارِ النَّافِي عَنْ الْإِقْرَارِ الْمُثْبِتِ بِنَاءً عَلَى احْتِمَالِ طَرَيَان الْبَرَاءَةِ وَالْإِسْقَاطِ فَإِنَّا لَا نَتْرُكُ أَصْلَ الشَّغْلِ بِاحْتِمَالِ تَعَقُّبِ الْمُسْقِطِ فَتَعَيَّنَ تَصْدِيقُهُمَا بِتَقْدِيرِ وُقُوعِ الْإِقْرَارِ النَّافِي قَبْلَ الْإِقْرَارِ الْمُثْبِتِ فَإِذَا ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ هَذَا فَذَلِكَ مَقْبُولٌ. اهـ. كَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ وَيُنَازِعُ فِيهِ أُمُورٌ مِنْهَا قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا نَقْلًا عَنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ وَأَقَرُّوهُ لَوْ أَقَامَ شَاهِدًا بِأَلْفٍ ادَّعَاهُ لِيَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَأَقَامَ خَصْمُهُ شَاهِدًا بِإِقْرَارِهِ أَنْ لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ شَاهِدِهِ وَسَقَطَتْ دَعْوَى الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ. اهـ. فَأَصْلُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ هُنَا اقْتَضَى تَرْجِيحَ الشَّاهِدِ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ فَقُدِّمَ عَلَى الشَّاهِدِ بِشَغْلِ الذِّمَّةِ بِالْأَلْفِ فَكَذَا فِي مَسْأَلَةِ ابْنِ الصَّلَاحِ يَنْبَغِي أَنْ تُقَدَّمَ الْبَيِّنَةُ النَّافِيَةُ عَلَى الْمُثْبِتَةِ لِاعْتِضَادِ الْأُولَى بِأَصْلِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ
وَقَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ إنَّهُ يَثْبُتُ بِالْمُثْبِتَةِ شَغْلُ ذِمَّتِهِ يُرَدُّ بِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهَا ذَلِكَ إلَّا مَعَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ لَهَا، وَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِ النَّافِيَةِ الْمُعَارِضَةِ لَهَا فَلَا يَتَحَقَّقُ شَغْلُ ذِمَّتِهِ وَحِينَئِذٍ فَتُقَدَّمُ النَّافِيَةُ لِاعْتِضَادِهَا بِالْأَصْلِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَرْكُ أَصْلِ الشَّغْلِ بِاحْتِمَالِ تَعْقِيبِ الْمُسْقِط خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ طَرَفَيْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ هُنَا مُحْتَمَلٌ فَإِذَا وُجِدَ مُرَجِّحٌ لِأَحَدِهِمَا عُمِلَ بِهِ وَالْمُرَجِّحُ مَوْجُودٌ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّفْيِ لَا لِلْإِثْبَاتِ فَلْيُقَدَّمْ طَرَفُ النَّفْيِ عَلَى الْإِثْبَاتِ لِاعْتِضَادِهِ وَعَدَمِ اعْتِضَادِ مُقَابِلِهِ فَإِنْ قُلْت يُمْكِن الْفَرْقُ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الشَّيْخَيْنِ وَمَسْأَلَةِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِأَنَّ مَسْأَلَتَهُ فِيهَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ فِي كُلٍّ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَكَانَ أَصْلُ الشَّغْلِ مُحَقَّقًا وَيَلْزَمُ مِنْ تَحَقُّقِهِ انْتِفَاءُ أَصْلِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ فِي مَسْأَلَتِهِ، وَأَمَّا مَسْأَلَتُهُمَا فَلَيْسَ فِيهَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ بَلْ بَعْضُهَا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهَا شَغْلٌ فَنَظَرُوا حِينَئِذٍ إلَى أَصْلِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَجَعَلُوهُ مُرَجِّحًا لِطَرَفِ النَّفْيِ الْمُوَافِقِ لَهُ دُونَ طَرَفِ الْإِثْبَاتِ الْمُخَالِفِ لَهُ قُلْت هَذَا الْفَرْقُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُتَخَيَّلَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ يَرْجِعُ إلَى الْفَرْقِ بِالصُّورَةِ دُونَ الْمَعْنَى وَهُوَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْمُثْبِتَةَ فِي مَسْأَلَتِهِ لَمَّا عَارَضَتْهَا الْبَيِّنَةُ النَّافِيَةُ لَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ لِمَا تَقَرَّرَ أَوَّلًا مِنْ وُجُودِ الْمُعَارِضِ لَهَا وَاعْتِضَادِهِ بِالْأَصْلِ دُونَهَا فَسَاوَتْ حِينَئِذٍ الشَّاهِدَ وَحْدَهُ فِي مَسْأَلَةِ الشَّيْخَيْنِ
فَكَمَا رَجَّحَا النَّافِيَ عَلَى الْمُثْبِتِ لِمَا مَرَّ كَذَلِكَ يَنْبَغِي تَرْجِيحُ النَّافِيَةِ عَلَى الْمُثْبِتَةِ فِي مَسْأَلَتِهِ لِذَلِكَ وَمِنْهَا أَنَّ الْأَذْرَعِيَّ نَازَعَهُ فِيمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِ شُرَيْحٍ فِي رَوْضَتِهِ إذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِالْمَالِ وَأُخْرَى بِالْإِبْرَاءِ مِنْهُ فَبَيِّنَةُ الْإِبْرَاءِ أَوْلَى إنْ أُطْلِقَتَا وَإِنْ وُقِّتَتَا فَالْمُتَأَخِّرَةُ وَإِنْ أُطْلِقَتْ بَيِّنَةٌ وَأُرِّخَتْ بَيِّنَةٌ فَبَيِّنَةُ الْبَرَاءَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ كَمَا لَوْ ذَكَرْنَا وَقْتًا وَاحِدًا فَيَتَعَارَضَانِ. اهـ. كَلَامُ شُرَيْحٍ وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: عَقِبَهُ وَهَذَا قَدْ يُنَازِعُ فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَمْرٍو - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. اهـ. وَمُنَازَعَتُهُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ سِيَّمَا مَا ذَكَرَهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَإِنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute