لَوْ تَيَمَّمَ لِلْجُمُعَةِ اسْتَبَاحَهُمَا مَمْنُوعٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ التَّيَمُّمَ لِلْجُمُعَةِ لَا يَصِحُّ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، وَبِذَلِكَ يَقْوَى مَا مَرَّ عَنْ قَضِيَّةِ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ لِأَنَّهُ إنْ تَيَمَّمَ لِلْخُطْبَةِ فَوَاضِحٌ أَوْ لِلْجُمُعَةِ فَلِعَدَمِ دُخُولِ وَقْتِ فِعْلِهَا فَلَا يَسْتَبِيحُ بِهِ شَيْئًا أَوَّلُهُمَا فَهَلْ يُغَلَّبُ الْمُصَحِّحُ أَوْ الْمُبْطِلُ؟ الْأَوْجَهُ الْأَوَّلُ قِيَاسًا عَلَى مَا مَرَّ فِيمَا لَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ فُرُوضٍ) انْتَهَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ، وَبِهَا يَتَّضِحُ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ وَبَيَانُ صِحَّةِ مَا لِلنَّاسِ فِيهَا وَفَسَادِهِ فَتَأَمَّلْهَا.
وَقَوْلُهُ أَوْ لَا فَلَا يَسْتَبِيحُهُمَا مَعًا إذَا تَيَمَّمَ لِأَحَدِهِمَا لَا يُنَافِيه تَوَقُّفُ صِحَّةِ التَّيَمُّمِ لِلْجُمُعَةِ عَلَى انْقِضَاءِ الْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ جَرَى عَلَى مَا اقْتَضَاهُ الْإِطْلَاقُ وَالثَّانِي مُبَيِّنٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِطْلَاقَ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ عُمُومَهُ فَتَأَمَّلْهُ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْعَطْشَانَ يَأْخُذُ الْمَاءَ قَهْرًا بِقِيمَتِهِ مِنْ مَالِكِهِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ بَذْلِهِ بَيْعًا وَغَيْرَهُ هَلْ لَا بُدَّ مِنْ لَفْظٍ فِي أَخْذِهِ بِالْقِيمَةِ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ مِنْ الشَّفِيعِ وَالْمُعِيرِ وَالْمُلْتَقِطِ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِتْلَافِ بِالْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ بِعِوَضٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ أَيْضًا: لَا يُؤْثِرُ الْمَالِكُ عَلَى نَفْسِهِ أَحَدًا عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَى الطُّهْرِ لِأَنَّ الْإِيثَارَ إنَّمَا شُرِعَ فِي حَظِّ النَّفْسِ لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْبِ، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَلَفِ مُهْجَتِهِ، هَلْ كَذَلِكَ السَّابِقُ فِي الْمِيضَأَةِ لَيْسَ لَهُ إيثَارُ غَيْرِهِ بِتَقْدِيمِهِ؛ لِأَنَّهُ إيثَارٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْبِ إذْ لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ أَمْ لَا؟ ذَلِكَ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ دُونَ ضِيقِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْثَرُ بِفَتْحِ الثَّاءِ إذَا كَانَ لَهُ فَضِيلَةُ عِلْمٍ أَوْ صَلَاحٍ فَلَا يَمْتَنِعُ فِيهِ وَيَمْتَنِعُ فِي غَيْرِهِ أَوْ كَانَ الْمُؤْثِرُ بِكَسْرِ الثَّاءِ نَحْوَ صَبِيٍّ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنَّ الَّذِي يَتَّجِهُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي أَخْذِهِ مَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ مِنْ نَحْوِ مَاءٍ وَطَعَامٍ وَوِقَايَةِ حَرٍّ وَبَرْدٍ مِنْ مَالِكِهِ الْغَيْرِ الْمُضْطَرِّ إلَيْهِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ بَذْلِهِ وَلَوْ بِعِوَضِ مِثْلِهِ إلَى لَفْظٍ كَمَا أَرْشَدَ إلَيْهِ تَعْبِيرُ بَعْضِهِمْ عَنْ هَذَا الْأَخْذِ بِالْغَصْبِ الْمُقْتَضِي أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ مُجَرَّدُ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا صَحَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَخْذُ قَهْرًا حَيْثُ لَا خَوْفَ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ إلَّا إذَا كَانَ الْمَالِكُ كَافِرًا كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ كَمَا لَا يَجِبُ دَفْعُ الصَّائِلِ الْمُسْلِمِ، بَلْ أَوْلَى فَإِيجَابُ الْأَخْذِ وَجَعْلُهُ كَدَفْعِ الصَّائِلِ ظَاهِرَانِ فِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لَفْظٌ، وَبِهَذَيْنِ فَارَقَ وُجُوبَ اللَّفْظِ فِي الشَّفِيعِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَلِّكٌ حَقَّ الْغَيْرِ اخْتِيَارًا مِنْهُ فَلَزِمَهُ مُقْتَضَى التَّمَلُّكِ مِنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا كَذَلِكَ الْمُضْطَرُّ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ شَرْعًا عَلَى هَذَا الْإِتْلَافِ فَلَمْ يُنَاسِبْهُ وُجُوبُ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَالْقِيَاسُ فِي مَسْأَلَةِ السَّابِقِ إلَى الْمِيضَأَةِ أَنَّهُ إنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ أَوْ أَمْكَنَ الْمُؤْثِرُ بِكَسْرِ الثَّاءِ الصَّلَاةَ مَعَ حَقْنِهِ جَازَ لَهُ الْإِيثَارُ إذْ لَيْسَ فِيهِ حِينَئِذٍ تَفْوِيتُ حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ مَا إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ وَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فِي وَقْتِهَا إلَّا بَعْدَ تَفْرِيغِ نَفْسِهِ فِيمَا سَبَقَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِيثَارُ حِينَئِذٍ بِمَاءِ الطُّهْرِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُؤْثِرَ بِمَاءِ الطُّهْرِ يُمْكِنُهُ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ بَعْدَ اسْتِعْمَالِ الْمُؤْثَرِ لَهُ، وَهُنَا لَا يُمْكِنُ الصَّلَاةُ مَعَ الْإِيثَارِ كَمَا هُوَ الْفَرْضُ فَإِنْ قُلْت مَا أَفْهَمَهُ هَذَا التَّقْرِيرُ مِنْ جَوَازِ الْإِيثَارِ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ، وَإِنْ أَدَّى إلَى لُحُوقِ ضَرَرٍ لِلْمُؤْثِرِ بِالْكَسْرِ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ التَّسَبُّبَ فِي إضْرَارِ النَّفْسِ، لَا يَجُوزُ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: ١٩٥] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ابْدَأْ بِنَفْسِك» قُلْت: مَحَلُّ هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَبْرٌ عَلَى تَحَمُّلِ الضَّرَرِ أَمَّا مَنْ لَهُ صَبْرٌ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ رَأَى غَيْرَهُ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ الْآنَ وَإِلَّا لَحِقَهُ ضَرَرٌ فَيُنْدَبُ لَهُ إيثَارُهُ حِينَئِذٍ بِلَا خِلَافٍ حَيْثُ كَانَ مُسْلِمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضِيلَةُ عِلْمٍ وَلَا صَلَاحٍ أَخْذًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: ٩] نَعَمْ قَالَ الْمُتَوَلِّي؟
(الْأَوْلَى إنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ نَفْعٌ لِلدِّينِ وَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُؤْثِرَ غَيْرَهُ) بَلْ وَقَعَ فِي الْإِبَانَةِ وَالْبَحْرِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُؤْثَرَ بِالْفَتْحِ فِي نَظِيرِ مَسْأَلَتِنَا الْقَبُولَ، لَكِنْ نَظَرَ فِيهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ، وَالنَّظَرُ وَاضِحٌ جَلِيٌّ إذَا كَانَ الْمُؤْثَرُ مِمَّنْ يَصْبِرُ أَيْضًا فَالْوَجْهُ خِلَافُهُ بَلْ يَنْبَغِي نَدْبُ عَدَمِ الْقَبُولِ إبْقَاءً لِمُهْجَةِ الْمُؤْثِرِ بِالْكَسْرِ حَيْثُ آثَرَ غَيْرَهُ عَلَيْهَا، أَمَّا إذَا كَانَ الْمُؤْثَرُ بِالْفَتْحِ لَا يَصْبِرُ فَلَا يَبْعُدُ وُجُوبُ الْقَبُولِ أَخْذًا مِنْ تَحْرِيمِهِمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُؤْثِرُ غَيْرَهُ، وَعَلَى هَذَا الْقِسْمِ يُحْمَلُ كَلَامُ الْإِبَانَةِ وَالْبَحْرِ وَبَحَثَ الزَّرْكَشِيُّ أَنْ مَحَلَّ جَوَازِ الْإِيثَارِ إذَا ظَنَّ سَلَامَةَ نَفْسِهِ رَدَدْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ جَمِيعِهِ بِأَنَّهُ غَفْلَةٌ عَنْ قَوْلِ الْإِمَامِ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْإِيثَارِ، وَإِنْ خَافَ هَلَاكَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ شَامِلَةٌ لِلْجَمِيعِ وَهُوَ مِنْ شِيَمِ الصَّالِحِينَ اهـ.
وَمُرَادُهُ بِالْجَوَازِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute