الْجِنْسُ الْأَعَمُّ الصَّادِقُ بِالْمَنْدُوبِ، وَأَشَارَ الْإِمَامُ بِمَا عَلَّلَ بِهِ إلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِيثَارِ بِقُرْبَةٍ حَتَّى يُكْرَهَ أَوْ يَكُونَ خِلَافَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ هُنَا رِعَايَةُ حُظُوظِ النَّفْسِ وَالنَّظَرُ إلَيْهَا فَكَانَ الْخُرُوجُ عَنْهَا بِإِيثَارِ الْغَيْرِ مَعَ الصَّبْرِ غَايَةً فِي الْقُرْبَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْإِيثَارِ بِالْقُرْبَةِ بِخِلَافِ نَحْوِ تَقْدِيمِ الْغَيْرِ بِمَوْضِعِهِ فِي صَفٍّ فَاضِلٍ مِنْ غَيْرِ مُقْتَضٍ لِذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَّ قُلْت فِي شَرْحِ الْعُبَابِ: (لَا يُقَالُ قَوْلُهُمْ يُسَنُّ لِلْمَجْرُورِ مُسَاعَدَةُ الْجَارِّ لَهُ مِنْ الصَّفِّ يُخَالِفُهُ قَوْلُهُمْ: الْإِيثَارُ بِالْقُرَبِ مَكْرُوهٌ أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ هَذَا إيثَارًا بِقُرْبَةٍ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُهُمْ، بَلْ هُوَ تَحْصِيلُ فَضِيلَةٍ لِلْغَيْرِ مَعَ بَقَاءِ فَضِيلَتِهِ؛ لِوُجُودِ خَلَفٍ عَنْهَا هُوَ فَضِيلَةُ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى الْمُعَادِلَةُ لِفَضِيلَةِ مَا فَاتَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّفِّ، وَإِنَّمَا الْإِيثَارُ بِالْقُرْبَةِ مِثْلُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الصَّفِّ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِيُدْخِلَ غَيْرَهُ مَوْضِعَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ تَفْوِيتُ فَضِيلَةٍ عَلَى النَّفْسِ لَا إلَى بَذْلٍ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَخْذًا مِمَّا مَرَّ تَقْدِيمُ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ بِتِلْكَ الْقُرْبَةِ كَتَقْدِيمِ الْأَقْرَإِ عَلَى الْأَفْقَهِ فِي الْإِمَامَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَقْرَأُ قَدْ تَقَدَّمَ إلَيْهَا عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ امْتِثَالِ أَمْرِ الشَّارِعِ مَا يَجْبُرُ فَضِيلَةَ تَقَدُّمِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّنْ لَزِمَهُ تَيَمُّمَانِ فَأَكْثَرُ لِجِرَاحَاتٍ بِأَعْضَاءٍ هَلْ يَجِبُ تَعْيِينُ مَا وَقَعَ التَّيَمُّمُ لِأَجْلِهِ مِنْ جِرَاحَةِ وَجْهٍ أَوْ يَدٍ أَوْ يَكْفِي الْإِطْلَاقُ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الْوَجْهُ فِيمَنْ عَلَيْهِ تَيَمُّمَاتٌ لِجِرَاحَاتِ أَعْضَاءٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُ كُلِّ جِرَاحَةٍ فِي تَيَمُّمٍ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الِاسْتِبَاحَةُ وَمِنْ ثَمَّ كَفَتْ فِي نِيَّةِ التَّيَمُّمِ لِلْحَدَثِ وَلِلْجَنَابَةِ وَلَمْ يَجِبْ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا تَعْيِينُهُمَا بَلْ لَا يُتَصَوَّرُ هُنَا تَعْيِينٌ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ تَيَمُّمٍ يَقْصِدُ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ مَثَلًا، وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ أَنْ يَقْصِدَ تِلْكَ الِاسْتِبَاحَةَ بِطُهْرِ الْيَدِ أَوْ الْوَجْهِ مَثَلًا، وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ مَا حَرَّرْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ أَنَّ تَفْرِيقَ نِيَّةِ الْوُضُوءِ عَلَى أَعْضَائِهِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ وَالطَّهَارَةِ عَنْهُ لِأَنَّ التَّجَزِّيَ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي هَاتَيْنِ بِخِلَافِ نَحْوِ التَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّجَزِّي فَلَمْ يُمْكِنْ فِيهِ التَّفْرِيقُ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا اتَّضَحَ عَدَمُ تَصَوُّرِ التَّعْيِينِ فِي تِلْكَ التَّيَمُّمَاتِ فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ وَاضِحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - هَلْ يَسْتَوِي فِيمَا ذَكَرُوهُ فِي التَّيَمُّمِ فِي الِازْدِحَامِ عَلَى الْبِئْرِ الْمُقِيمُ وَالْمُسَافِرُ أَوْ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالْمُسَافِرِ كَمَا صَوَّرْته فِي الْعُبَابِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: عِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ (مُسَافِرُونَ) خَاصٌّ بِمَسْأَلَةِ الْبِئْرِ خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ صَنِيعُهُ، وَلَا يُعِيدُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ فِي الْحَالِ وَجِنْسُ عُذْرِهِ غَيْرُ نَادِرٍ حَتَّى فِي الْأَخِيرَةِ، أَيْ وَهِيَ قَوْلُ الْمَتْنِ (أَوْ مَقَامٌ خِلَافًا لِمَنْ نَازَعَ فِيهِ وَبِهِ فَارَقَ الْعَاجِزَ الَّذِي مَعَهُ مَاءٌ لَا يَجِدُ مَنْ يُوَضِّئُهُ بِهِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُعِيدُ؛ لِنُدْرَةِ عُذْرِهِ.
وَقَدْ يَسْتَشْكِلُ عَدَمُ الْقَضَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْبِئْرِ بِأَنَّهُ كَمَنَ كَانَ بِمَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ عَدَمَ تَمَكُّنِهِ مِنْهَا فِي الْوَقْتِ صَيَّرَهَا كَالْعَدَمِ.
وَإِنَّمَا لَمْ تُؤَثِّرْ الْقُدْرَةُ هُنَا بِعَدِّهِ قِيَاسًا عَلَى الْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ وَعَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ مَعَ غَلَبَةِ ظَنِّ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِمَا بِعَدِّهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ تَنَجَّسَ ثَوْبُهُ، وَكَانَ مَعَهُ مَاءٌ لَوْ اشْتَغَلَ بِغَسْلِهِ بِهِ خَرَجَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يَجِبُ انْتِظَارُهُ كَمَا مَرَّ لِأَنَّ الْبِئْرَ وَالثَّوْبَ وَالْمَكَانَ هُنَا لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي قَبْضَتِهِ، وَالثَّوْبُ ثَمَّ فِي قَبْضَتِهِ فَيَنْتَظِرُ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ أَوْ يَغْرِفُهُ مِنْ بِئْرٍ، وَلَا مُزَاحِمَ لَهُ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يَنْتَظِرُ وَلَا يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ وَخَرَجَ بِالْمُسَافِرِينَ فِي الْأُولَى الْمُقِيمُونَ فَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ لِمَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا لَزِمَهُ طَلَبُ الْمَاءِ. .. إلَخْ) انْتَهَتْ.
وَعِبَارَتُهُ ثَمَّ، وَإِنْ كَانَ فَاقِدُ الْمَاءِ مُقِيمًا لَزِمَهُ طَلَبُ الْمَاءِ إنْ أَمِنَ مَا مَرَّ، وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ بِطَلَبِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِنُدْرَةِ فَقْدِهِ ثَمَّ، أَيْ فِي مَحَلِّ الْإِقَامَةِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى تَعْلِيلِ الشَّيْخَيْنِ بِقَوْلِهِمَا؟
(لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْقَضَاءِ، أَيْ لِتَيَمُّمِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَنُدْرَةِ فَقْدِهِ ثُمَّ فَلَا يُرَدُّ جَوَازُ التَّيَمُّمِ لِلْبَرْدِ مَعَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَأَفْهَمَ التَّعْلِيلُ أَنَّ الْحُكْمَ مَنُوطٌ بِمَنْ هُوَ بِمَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ وَلَوْ مُسَافِرًا إذْ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ كَمَا يَأْتِي مُوَضَّحًا، فَتَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ بِالْمُسَافِرِ فِيمَا مَرَّ وَبِالْمُقِيمِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ، وَمَا أَفْهَمَهُ كَلَامُهُ مِنْ أَنَّ الْمُقِيمَ يَلْزَمُهُ الطَّلَبُ إذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ عَدَمَ الْمَاءِ حَوَالَيْهِ فِي حَدِّ الْقُرْبِ هُوَ مَا يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُهُمْ، وَعِبَارَةُ الْمَجْمُوعِ (إذَا تَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ حَوَالَيْهِ فَلَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: إحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ فِي حَدِّ الْقُرْبِ فَيَلْزَمُهُ طَلَبُهُ، الثَّانِيَةُ: