يُسْتَنْبَطُ مِنْ النَّصِّ مَعْنًى يُخَصِّصُهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ فِي صَحْنِهَا إذْ يَبْعُدُ كُلَّ الْبَعْدِ فَتْحُهَا فِي حَيَاتِهِ مَعَ عَدَمِ إذْنِهِ وَبِفَرْضِ أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ فَتَقْرِيرُهُ قَبْلَ أَمْرِهِ بِسَدِّهَا دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا بِمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الْأُولَى
لَكِنَّا عَمِلْنَا بِالْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ فَقَيَّدْنَاهُ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ احْتِرَامَ الْوَقْفِ وَأَنَّ الْمَسْجِدَ حُرٌّ يَمْلِك فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ إلَّا بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ تَعُودُ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ فَلَا يَكْتَفِي بِهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَاتَّضَحَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا لِلْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ بِالْمَسْجِدِ أَوْ الْعَامَّةِ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَحَقَّقُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ إلَّا بِتِلْكَ الشُّرُوطِ فَلَمْ نُجَوِّزْهُ إلَّا بِهَا، وَقَوْلُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ نَقُولَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْوَاقِفِ إلَخْ هَذَا احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْدُ، وَقَوْلُهُ: فَالْأَقْرَبُ إلَخْ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته أَوَّلًا وَفِي رَدِّ قَوْلِهِ: لَزِمَ عَلَيْهِ جَوَازُ فَتْحِ بَابٍ فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ وَكُوَّةٍ إلَخْ، وَقَوْله: وَفِي فَتَاوَى ابْنِ الصَّلَاحِ إلَخْ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ بَعِيدٍ، وَاعْتِرَاضُ الزَّرْكَشِيّ اسْتِدْلَالَهُ بِحَدِيثِ: لَوْلَا قَوْمُك إلَخْ. يُرَدُّ بِأَنَّ رَدَّهَا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ فِي نَظَرِهِ اقْتَضَتْ جَوَازَ الْفَتْحِ فِي جِدَارِهَا فَأُخِذَ مِنْهُ جَوَازُ الْفَتْحِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَقَوْلُهُ: وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا إلَخْ هُوَ فِقْهٌ ظَاهِرٌ، لَكِنْ بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ، وَلِلْأَذْرَعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ تَغْيِيرِ مَعَالِمِ الْوَقْفِ اخْتِيَارٌ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ تَوَسُّطِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَكَرِهِ لِيُسْتَفَادَ قَالَ الْقَاضِي: لَوْ أَرَادُوا أَنْ يَغْرِسُوا فِي أَرْضِ الْوَقْفِ هَلْ لَهُمْ ذَلِكَ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدَهُمَا لَهُمْ ذَلِكَ، وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ
لِأَنَّ فِيهِ تَغْيِيرَ شَرْطِ الْوَاقِفِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ السُّبْكِيّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحَ إلَّا أَنْ يَنُصَّ الْوَاقِفُ عَلَى أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا بِجَمِيعِ الِانْتِفَاعَاتِ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ تَحْكِيرِ الْأَرْضِ لِيَبْنِيَ فِيهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ مَعْرُوفَةً بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا مَا كَانَ بُسْتَانًا لَا يُجْعَلُ حِكْرًا وَمَا كَانَ حِكْرًا لَا يُجْعَلُ بُسْتَانًا وَفِيهِ نَظَرٌ إذَا اقْتَضَتْ الْمَصْلَحَةُ ذَلِكَ مَعَ إطْلَاقِ الْوَاقِفِ وَعَدَمِ مَنْعِهِ مِنْهُ، وَلَا كَانَ هُنَاكَ اسْمٌ تَجِبُ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ وَمِنْ ثَمَّ لَوْ وَقَفَ بُسْتَانًا فَانْقَلَعَ شَجَرُهُ لَمْ يَجُزْ إيجَارُهُ لِلْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْيِيرَ الِاسْمِ الَّذِي وَرَدَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ كَمَا لَا تُجْعَلُ الدَّارُ حَوَانِيتَ وَلَا حَمَّامًا فَإِنَّا نُحَافِظُ عَلَى أَنَّ مَعَالِمَ الْوَقْفِ لَا تُغَيَّرُ اهـ.
وَيَطْرُقُ هَذَا قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ السَّابِقُ لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الْوَقْفِ، وَالْمُخْتَارُ الْأَقْوَى الْجَوَازُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْوَاقِفُ التَّغْيِيرَ مَا لَمْ يَصُدَّ عَنْهُ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ إذْ غَرَضُ الْوَاقِفِ الِاسْتِعْمَالُ وَتَكْثِيرُ الرَّيْعِ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بِلَا شَكٍّ لَا مُسَمَّى الْبُسْتَانِ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ قَالَ الْقَفَّالُ: إنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ النَّظَرِ إلَى مَقَاصِدِ الْوَاقِفِينَ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَجْزِمُ بِأَنَّ غَرَضَهُ تَوْفِيرُ الرَّيْعِ عَلَى جِهَةِ الْوَقْفِ، وَقَدْ يَحْدُثُ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَزْمَانِ مَصَالِحُ لَمْ تَظْهَرْ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي وَتَظْهَرُ الْغِبْطَةُ فِي شَيْءٍ يَقْطَعُ بِأَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ أُطْلِعَ عَلَيْهِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ فَيَنْبَغِي لِلنَّاظِرِ أَوْ الْحَاكِمِ فِعْلُهُ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ، وَلَا سِيَّمَا إذَا عَظُمَتْ الْأُجْرَةُ وَتَضَاعَفَتْ الْفَائِدَةُ، وَالتَّسْمِيَةُ بِالدَّارِ أَوْ الْبُسْتَانِ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ غَالِبًا التَّعْرِيفُ لِإِبْقَاءِ الِاسْم مَعَ ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ الظَّاهِرَةِ فِي غَيْرِهِ ظُهُورًا عَظِيمًا، كَدَارٍ ظَهْرُهَا مُجَاوِرٌ لِسُوقٍ أُخِذَتْ أُجْرَتُهَا فِي الشَّهْر عَشَرَةً مَثَلًا، وَلَوْ عُمِلَتْ حَوَانِيتَ فَبَلَغَتْ مِائَةً أَوْ مِائَتَيْنِ مَعَ خِفَّةِ عِمَارَتِهَا وَمَرَمَّتِهَا فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا مَعْنًى لِلْجُمُودِ عَلَى بَقَاءِ اسْمِ الدَّارِ مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ مِنْ الْوَاقِفِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ الشُّرُوطِيِّ وَقْفُ جَمِيعِ الدَّارِ أَوْ الْبُسْتَانِ لِلتَّعْرِيفِ، وَالْمُخْتَارُ مِنْ وَجْهَيْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ الْأَوَّلُ عِنْدَ ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فِي الْغَرْسِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ بِبِلَادِ الشَّامِ فِي قُرَى الِاسْتِغْلَالِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَهَذَا مَا ظَهَرَ لِي فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ وَإِلَّا فَهُوَ مِنِّي، وَأَكْثَرُ الْوَاقِفِينَ يَقُولُ فِي شَرْطِهِ وَعَلَى النَّاظِرِ فِعْلُ مَا فِيهِ النَّمَاءُ وَالْمَزِيدُ لِغَلَّاتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ اهـ.
كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ وَهُوَ مُصَرَّحٌ فِيهِ كَمَا تَرَى بِأَنَّ اخْتِيَارَهُ هَذَا خَارِجٌ عَنْ الْمَذْهَبِ إذْ الْمَذْهَبُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَنَّهُ مَتَى أَدَّى التَّغْيِيرُ إلَى تَغْيِيرِ الِاسْمِ مَعَ الْجِنْسِ كَأَنْ يَجْعَلَ الدَّارَ بُسْتَانًا أَوْ حَمَّامًا امْتَنَعَ، بِخِلَافِ جَعْلِ حَانُوتِ الْحَدَّادِ حَانُوتَ قَصَّارٍ لِبَقَاءِ الِاسْم، وَإِنَّمَا الْمُتَغَيِّرُ النَّوْعُ دُونَ الْجِنْسِ وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْأَرْجَحَ مِنْ وَجْهَيْ الْقَاضِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِمَا تَرْجِيحُ السُّبْكِيّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute