الرَّافِعِيِّ فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ إذَا عَلِمْت ذَلِكَ عَلِمْت مِنْهُ أَنَّهُمْ مُطْبَقُونَ عَلَى أَنَّ آلَاتِ الْعِمَارَةِ لَا تَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ بَانِيهَا مِنْ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ كَوْنِهِ نَائِبًا فِي ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ إلَّا بِاللَّفْظِ وَلَا تُغْنِي عَنْهُ النِّيَّةُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِعْيَارُ الْعُمُومِ
وَهُمْ لَمْ يُسْتَثْنَوْا مِنْ اشْتِرَاطِ اللَّفْظِ فِي الْوَقْفِ إلَّا هَذِهِ الصُّورَةَ، وَحِينَئِذٍ فَالْآلَاتُ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِ بَانِيهَا الْمُتَعَدِّي بِبِنَائِهَا فَلْتَكُنْ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِ وَإِنْ نَوَى بِوَضْعِهَا الْوَقْفَ أَوْ التَّبَرُّعَ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ النِّيَّةَ لَا يُكْتَفَى بِهَا وَحْدَهَا إلَّا فِي صُورَةِ الْمَوَاتِ، وَمِمَّا هُوَ صَرِيحٌ أَيْضًا فِيمَا قُلْته مِنْ بَقَاءِ الْآلَةِ عَلَى مِلْكِهِ قَوْلُ الرُّويَانِيِّ: إذَا عَمَّرَ إنْسَانٌ الْمَسْجِدَ الْخَرَابَ وَلَمْ يَقِفْ الْآلَةَ كَانَتْ عَارِيَّةً يَرْجِعُ فِيهَا مَتَى شَاءَ اهـ.
وَهَذَا صَرِيحٌ أَيْ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ فِي مَسْأَلَتِنَا يَرْجِعُ فِي آلَتِهِ مَتَى شَاءَ، لَكِنْ إنْ تَرَتَّبَ عَلَى رُجُوعِهِ هَدْمٌ لِلْمَوْقُوفِ غَرِمَ أَرْشَهُ لِيُعَادَ بِهِ كَمَا كَانَ فَإِنْ قُلْت نَظَرَ بَعْضُهُمْ فِي كَلَامِ الرُّويَانِيِّ حَيْثُ قَالَ عَقِبَهُ وَفِيهِ نَظَرٌ وَكَلَامُ الْبَغَوِيِّ قَدْ يُخَالِفُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لِقَيِّمِ الْمَسْجِدِ اضْرِبْ اللَّبِنَ مِنْ أَرْضِي لِلْمَسْجِدِ فَضَرَّبَهُ وَبَنَى الْمَسْجِدَ صَارَ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ لَهُ نَقْضُهُ كَالصَّدَقَةِ الَّتِي اتَّصَلَ بِهَا الْقَبْضُ وَلَهُ اسْتِرْدَادُهُ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَ بِهِ.
قَالَ: وَلَوْ أَعَارَ الطِّينَ وَالْخَشَبَ لِقَيِّمِ الْمَسْجِدِ لِيَبْنِيَ بِهِمَا لَمْ يَجُزْ إذْ مُقْتَضَى الْإِعَارَةِ الِاسْتِرْدَادُ، وَالشَّيْءُ إذَا صَارَ مَسْجِدًا لَا يَجُوزُ اسْتِرْدَادُهُ بِخِلَافِ إعَارَةِ الْأَرْضِ لِلدَّفْنِ فَإِنَّ لَهُ غَايَةً اهـ. قُلْت: ذَلِكَ الْبَعْضُ اسْتَنَدَ فِي نَظَرِهِ إلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ كَلَامَ الْبَغَوِيِّ قَدْ يُخَالِفُهُ وَأَنْتَ إذَا حَقَّقْت النَّظَرَ فِي قَوْلِ الْبَغَوِيِّ كَالصَّدَقَةِ إلَخْ وَفِي فَرْضِهِ الْكَلَامَ فِي قَوْلِهِ لِلْقَيِّمِ مَا ذُكِرَ وَأَنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ الْهِبَةَ نَظِيرَ مَا مَرَّ آنِفًا عَقِبَ كَلَامِ الْقَمُولِيِّ وَالْبُلْقِينِيِّ وَجَدْته غَيْرَ مُخَالِفٍ لِكَلَامِ الرُّويَانِيِّ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الرُّويَانِيِّ فِيمَا إذَا بَنَى الْمَسْجِدَ بِآلَةِ نَفْسِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَالْآلَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ لِأَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَسْأَلَةِ الْمَوَاتِ السَّابِقَةِ إلَّا بِلَفْظِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَأَمَّا كَلَامُ الْبَغَوِيِّ فَهُوَ مَفْرُوضٌ فِيمَا إذَا قَالَ لِلْقَيِّمِ مَا ذُكِرَ، وَهَذَا قَوْلٌ مُتَضَمِّنٌ لِلتَّمْلِيكِ لِلْمَسْجِدِ وَهُوَ حُرٌّ يَمْلِكُ فَإِذَا قَبَضَهُ نَاظِرُهُ بِأَنْ بَنِي بِهِ فِيهِ مَلَكَهُ الْمَسْجِدُ كَالصَّدَقَةِ الَّتِي اتَّصَلَ بِهَا الْقَبْضُ فَعُلِمَ وُضُوحُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَانْدَفَعَ الْقَوْلُ بِأَنَّ كَلَامَ الْبَغَوِيِّ قَدْ يُخَالِفُ كَلَامَ الرُّويَانِيِّ وَوَجْهُ انْدِفَاعِ هَذَا أَنَّ كَلَامَ الْبَغَوِيِّ مُخَالِفٌ لَهُ صَرِيحًا
لَكِنْ لِمُدْرَكٍ يَخُصُّهُ كَمَا قَرَّرْنَاهُ وَمَسْأَلَةُ السُّؤَالِ إنَّمَا تُشْبِهُ فَرْضَ مَسْأَلَةِ الرُّويَانِيِّ لَا فَرْضَ مَسْأَلَةِ الْبَغَوِيِّ، فَنَتَجَ مِنْ ذَلِكَ إيضَاحُ مَا ذَكَرْته أَنَّ كَلَامَ الرُّويَانِيِّ صَرِيحُ فِي مَسْأَلَتِنَا وَأَنَّ كَلَامَ الْبَغَوِيِّ لَا يُخَالِفُهُ وَلَا يُخَالِفُ مَسْأَلَتَنَا أَيْضًا فَلَا يُرَدُّ عَلَيْنَا وَلَا عَلَى الرُّويَانِيِّ، وَمِمَّا هُوَ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته أَيْضًا قَوْلُهُمْ يَصِحُّ وَقْفُ الْمُسْتَأْجِرِ لِمَا بَنَاهُ فِي الْأَرْضِ الْمُؤَجَّرَةِ وَلَوْ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً تَعَيَّنَ الْإِبْقَاءُ بِالْأُجْرَةِ عَلَى مَا فِيهِ مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَحِلِّهِ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّمَا صَارَ الْمَبْنِيُّ فِي عِمَارَةِ الْمَوْقُوفِ وَتَرْمِيمِهِ وَقْفًا بِالْبِنَاءِ لِجِهَةِ الْوَقْفِ وَلَمْ يَحْتَجْ لِإِنْشَاءِ وَقْفِهِ بِخِلَافِ بَدَلِ الْمَوْقُوفِ إذَا قُتِلَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ الْمَوْقُوفَةَ بَاقِيَةٌ، وَالْمَبْنِيُّ بِهِ كَالْوَصْفِ التَّابِعِ بِخِلَافِ الْمَقْتُولِ فَإِنَّهُ فَاتَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِذَا تَأَمَّلْت كَلَامَهُمْ هَذَا مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ عَلِمْت أَنَّ هَذَا فِيمَا إذَا بَنَى فِي الْمَوْقُوفِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ كَالنَّاظِرِ أَوْ الْحَاكِمِ أَوْ مَأْذُونِ أَحَدِهِمَا فَبِمُجَرَّدِ بِنَاءِ أَحَدِ هَؤُلَاءِ يَصِيرُ الْمَبْنِيُّ وَقْفًا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ لِإِنْشَاءِ وَقْفٍ لِوُقُوعِهِ تَابِعًا لِلْمَوْقُوفِ الْمَوْجُودِ مِمَّنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ، وَعَلِمْت أَنَّ الْأَوَّلَ فِي بِنَاءِ غَيْرِ هَؤُلَاءِ فِي أَرْضٍ مَوْقُوفَةٍ فَلَا يَصِيرُ بِنَاؤُهُ وَقْفًا بِمُجَرَّدِ بِنَائِهِ لِمَا عَلِمْت مِنْ تَصْرِيحِهِمْ بِصِحَّةِ وَقْفِهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِكَوْنِهِ مَالِكًا لَهُ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إذَا بَنَى مُتَعَدِّيًا فِي الْأَرْضِ أَوْ الدَّارِ الْمَوْقُوفَةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، لَا يَخْرُجُ بِنَاؤُهُ عَنْ مِلْكِهِ بِمُجَرَّدِ بِنَائِهِ بَلْ وَلَا بِنِيَّةِ أَنَّهُ لِلْوَقْفِ كَمَا مَرَّ، فَإِنْ قُلْت: صَرَّحُوا فِي غَرْسِ الشَّجَرَةِ فِي الْمَسْجِدِ بِاعْتِبَارِ نِيَّةِ الْغَارِسِ وَقَالُوا فِيمَا إذَا غَرَسَهَا مُسَبَّلَةً لِلْأَكْلِ: إنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُ ثَمَرِهَا بِلَا عِوَضٍ، وَكَذَا إنْ جُهِلَتْ نِيَّتُهُ حَيْثُ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنَّهَا تُغْرَسُ مُسَبَّلَةً لِلْأَكْلِ، فَمَا بَالُ النِّيَّةِ أَثَّرَتْ هُنَا وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِي مَسْأَلَتِنَا قُلْت: مَا ذَكَرُوهُ هُنَا مِنْ تَأْثِيرِ النِّيَّةِ وَحْدَهَا مُشْكِلٌ خَارِجٌ عَنْ الْقَوَاعِدِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ
وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِإِشْكَالِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute