وَادَّعَى صَاحِبُ الْجِذْعِ وَضْعَهُ بِحَقٍّ فَيُحْكَمُ لِصَاحِبِ الْجِذْعِ بِالظَّاهِرِ مِنْ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ بِحَقٍّ وَتُفْرَضُ مَسْأَلَةُ الْبَغَوِيِّ فِيمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ يَجْرِي بِحَقٍّ، لَكِنْ قَالَ الْمَالِكُ: عَارِيَّةٌ، وَقَالَ مَالِكُ الْمَاءِ: إجَارَةٌ أَوْ بَيْعٌ فَيُصَدَّقُ الْمَالِكُ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ أَدْنَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَهِيَ مُحَقَّقَةٌ وَمَا عَدَاهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَلِذَا صُدِّقَ الْمَالِكُ، وَهَذَا أَقْرَبُ عِنْدِي وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُمَا لَوْ اتَّفَقَا فِي مَسْأَلَةِ الْجِدَارِ عَلَى وَضْعِ الْجِذْعِ بِحَقٍّ، وَقَالَ الْمَالِكُ: عَارِيَّةٌ، وَقَالَ مَالِكُ الْجِذْعِ: إجَارَةً أَوْ بَيْعًا صُدِّقَ الْمَالِكُ وَإِنَّ مَالِكَ الْأَرْضِ فِي مَسْأَلَةِ الْبَغَوِيِّ: لَوْ قَالَ: هَذَا الْمَاءُ يَجْرِي بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَالَ مَالِكُهُ: بَلْ يَجْرِي بِحَقٍّ وَلَمْ يُعْلَمْ كَيْفَ وُضِعَ قُضِيَ لَهُ بِاسْتِحْقَاقِهِ دَائِمًا، وَهَذَا جَمْعٌ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَعَلَّهُ مُرَادُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ وَالْبَغَوِيِّ، فَإِنَّ كَلَامَهُ نَقَلَهُ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ وَأَقَرُّوهُ مَعَ ذِكْرِهِمْ كَلَامَ الشَّيْخَيْنِ السَّابِقَ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ وَلَمْ يَعْتَرِضُوا أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ الْكَلَامَيْنِ مُعْتَمَدٌ
وَقَدْ عَلِمْتُ مَا فِيهِمَا وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إلَّا بِهَذَا الْحَمْلِ الَّذِي ذَكَرْته وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلِيُّ التَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ثُمَّ رَأَيْت عِبَارَةَ الْبَغَوِيِّ فِي فَتَاوِيه تُومِئُ لِمَا ذَكَرْته فَإِنَّهُ قَالَ: فِيهَا رَجُلٌ يُجْرِي مَاءَ بَحْرٍ إلَى مِلْكِ الْغَيْرِ فَقَالَ صَاحِبُ الْمِلْكِ: لَا حَقَّ لَك فِيهِ إنَّمَا هُوَ عَارِيَّةٌ وَادَّعَاهُ مَنْ كَانَ يُجْرِي الْمَاءَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمِلْكِ مَعَ يَمِينِهِ اهـ. فَأَفْهَمَ قَوْلُهُ لَا حَقَّ لَك فِيهِ إنَّمَا هُوَ عَارِيَّةٌ أَنَّ الْمُرَادَ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ وَقَوْلُهُ وَادَّعَاهُ مَنْ كَانَ يُجْرِي أَنَّهُ إنَّمَا ادَّعَى مِلْكِيَّتَهُ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ مَا قَدَّمْته فِي تَصْوِيرِ كَلَامِهِ قَبْلَ أَنْ أَرَى عِبَارَتَهُ هَذِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ فِي الرَّوْضَةِ فِي الْأَرَاضِي الَّتِي تَشْرَبُ عَلَى التَّعَاقُبِ وَلَمْ يَحْبِسْ الْأَوَّلُ الْمَاءَ فِي أَرْضِهِ وَجْهَانِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ، وَالثَّانِي يَرْجِعُ فِي وَقْتِ السَّقْيِ إلَى الْعَادَةِ وَالْحَاجَةِ، وَعَلَيْهِ فَهَلْ لِلْعَادَةِ مِقْدَارٌ مُقَدَّرٌ يُعْرَفُ بِهِ مَا تَحْتَاجُهُ الْأَرْضُ الْعُلْيَا مِنْ الْمَاءِ أَيْ: السَّيْلُ الْأَوَّلُ ثُمَّ مَا يَلِيه إذَا اتَّبَعَتْ السُّيُولُ فَإِنَّ عَادَةَ أَهْلِ الْبِحَارِ الْأَسَفُ عَلَى الْمَاءِ خُصُوصًا فِي جِهَتِنَا مَا يُخْرِجُونَ شَيْئًا مِنْ الْمَاءِ إلَّا وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى حِفْظِهِ.
وَهَلْ يُقَالُ: إنَّ الْعَادَةَ فِي ذَلِكَ مَا يُرَدُّ بِهِ الشَّجَرُ وَالثَّمَرُ وَالزَّرْعُ وَنَحْوُهَا أَمْ هُوَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَمَا هُوَ؟
(فَأَجَابَ) بِأَنَّ مَعْنَى تَقْدِيمِ الْأَوَّلِ، فَالْأَوَّلُ الْمَذْكُورُ فِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَحْبِسُ الْمَاءَ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِذَلِكَ، وَالتَّقْدِيرُ بِهِ هُوَ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ لِلْحَدِيثِ وَتَبِعَهُمْ الْحَاوِي الصَّغِيرُ كَالْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ نَقَلَ الشَّيْخَانِ بَعْدُ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْأَوْلَى التَّقْدِيرُ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنَّمَا يُقَدِّمُ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ فِي ذَلِكَ، وَاعْتَمَدَ ذَلِكَ السُّبْكِيّ وَالْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَجَزَمَ بِهِ الْمُتَوَلِّي، وَمَا فِي الْحَدِيثِ وَاقِعَةُ حَالٍ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ عَادَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ فَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْأَوْلَى وَإِلَّا ضُبِطَ التَّقْدِيرُ بِالْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَرْضِ وَبِاخْتِلَافِ مَا فِيهَا مِنْ زَرْعٍ وَشَجَرٍ وَبِوَقْتِ الزِّرَاعَةِ وَبِوَقْتِ السَّقْيِ وَبِهَذَا يُعْلَمُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ السَّائِلِ وَعَلَيْهِ فَهَلْ لِلْعَادَةِ إلَخْ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَادَةِ الْحَاجَةُ كَمَا تَقَرَّرَ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ إلَى الْعَادَةِ وَالْحَاجَةِ فَبَيَّنَ بِعَطْفِ الْحَاجَةِ عَلَى الْعَادَةِ أَنَّ الْمُرَادَ الْحَاجَةَ عَلَى قَدْرِ عَادَةِ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) لَوْ ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ السَّاقِيَةَ أَيْ النَّهْرَ مُسْقًى لِأَهْلِ هَذَا النَّخْلِ مَثَلًا وَأَنَّ هَذَا النَّخْلَ يَشْرَبُ أَوَّلًا ثُمَّ هَذَا ثُمَّ أَنَّ النَّخْلَ الْمُقَدِّمُ الْمُتَقَدَّمُ شُرْبُهُ تَعَطَّلَ بِأَنْ ارْتَفَعَ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ بِسَبَبِ إهْمَالِ مَالِكِهِ فَصَارَ لَا يَدْخُلُهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ الْمَاءِ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إلَى مَنْ خَلْفَهُ الَّذِي مُتَرَتِّبٌ شُرْبِهِ عَلَى شُرْبِهِ فَهَلْ يُجْبَرُ الْأَوَّلُ عَلَى تَعْمِيقِ الْمُرْتَفِعِ مِنْ أَرْضِهِ حَتَّى يَسْقِيَ مَنْ خَلْفَهُ فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَامْتَنَعَ وَأَرَادَ مَنْ خَلْفَهُ أَنْ يُعَمِّقَهُ لِيَصِلَ الْمَاءُ إلَيْهِ فَهَلْ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَذَاكَ، وَإِنْ قُلْتُمْ لَا فَقَدْ تَعَطَّلَ شُرْبُ مَنْ خَلْفَهُ بِسَبَبِهِ، وَهَذَا إضْرَارٌ؟
(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ مَرَّ مَبْسُوطًا فِي الْجَوَابِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ وَالْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَعْمِيقِ الْمُرْتَفِعِ مِنْ أَرْضِهِ وَأَنَّ لِمَنْ خَلْفَهُ أَنْ يُعَمِّقَهُ حَتَّى يَصِلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute