وَاحِدَةٍ مُبَادَرَةً لِلصَّلَاةِ فَلْيُتَأَمَّلْ
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِي فِي شَرْحِ الْعُبَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ؟
(وَتَقْتَصِرُ فِي أَفْعَالِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى أَقَلِّ وَاجِبٍ) تَبِعَ فِيهِ غَيْرَهُ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ بَحْثِ الزَّرْكَشِيّ وُجُوبَ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَرَّةٍ فِي وُضُوءِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا مَرَّ أَنَّهُ بَحْثٌ مُخَالِفٌ لِلْمَنْقُولِ، فَالْوَجْهُ عَدَمُ وُجُوبِ مَا ذَكَرَهُ الْمَتْنُ هُنَا بَلْ هُوَ عَجِيبٌ مِنْهُ كَيْفَ وَمَا ذَكَرَهُ قَبْلُ صَرِيحٌ فِي رَدِّهِ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ لَهَا التَّأْخِيرُ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ - فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ لَهَا الْإِتْيَانُ بِسُنَنِ الصَّلَاةِ الْمُشْتَمِلَةِ هِيَ عَلَيْهَا، بَلْ مَرَّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا قِرَاءَةُ السُّورَةِ وَهُوَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْبَحْثِ) انْتَهَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ، وَهِيَ نَصٌّ فِيمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ -.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ حَائِضٍ هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِالدِّينَارِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُهُمْ مِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ أَنَّهُمْ فَصَلُوا فِي نَدْبِهَا بَيْنَ كَوْنِ الْوَطْءِ مِنْ عَامِدٍ عَالِمٍ بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارٍ لَهُ فَيُنْدَبُ، وَبَيْنَ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يُنْدَبُ لَهُ.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ إنَّمَا يَتَأَتَّى فِي الْحَلِيلَةِ لِأَنَّهَا الَّتِي يُتَصَوَّرُ فِي وَطْئِهَا فِي الْحَيْضِ أَنَّهُ تَارَةً يَحْرُمُ فَيُنْدَبُ وَتَارَةً لَا يَحْرُمُ فَلَا يُنْدَبُ، وَأَمَّا الْمَزْنِيُّ بِهَا فَلَا يَكُونُ وَطْؤُهَا إلَّا حَرَامًا وَلَوْ مِنْ مُكْرِهٍ إذْ الْأَصَحُّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُبِيحُ الزِّنَا، وَإِنْ أُسْقِطَ حَدُّهُ لِلشُّبْهَةِ وَجَاهِلٍ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَجْهَلُ حُرْمَةَ الزِّنَا إلَّا النَّادِرُ الَّذِي لَمْ يُخَالِطْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَسْمَعُ بِأَخْبَارِهِمْ الثَّانِي: أَنَّهُمْ عَلَّلُوا عَدَمَ وُجُوبِهَا خِلَافًا لِلْقَوْلِ الْقَدِيمِ الْمُوجِبِ لَهَا بِأَنَّهُ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ؛ لِلْأَذَى فَلَمْ يَجِبْ بِهِ كَفَّارَةٌ كَاللِّوَاطِ، فَقَوْلُهُمْ: مُحَرَّمٌ لِلْأَذَى مُخْرِجٌ لِوَطْءِ الزِّنَا فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ لِذَاتِهِ لَا لِعَارِضٍ، فَلَمْ يُنْدَبْ فِيهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْرَأْ لَهُ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَصْلِهِ بِخِلَافِ وَطْءِ الْحَلِيلَةِ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لِذَاتِهِ فَإِذَا طَرَأَ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ عَنْ ذَلِكَ نَاسَبَ أَنْ يُكَفِّرَ، وَأَنْ تَكُونَ كَفَّارَتُهُ مَنْدُوبَةً نَظَرًا لِحِلِّهِ فِي الْأَصْلِ لَا وَاجِبَةً، وَبِذَلِكَ فَارَقَ وُجُوبَ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ لِذَاتِهِ فَإِنْ قُلْت: قَضِيَّةُ الْقِيَاسِ عَلَى اللِّوَاطِ نُدِبَ التَّصَدُّقُ فِيهِ.
قُلْتُ: لَيْسَ قَضِيَّتُهُ ذَلِكَ كَمَا فُهِمَ مِمَّا قَرَرْته لِأَنَّ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ رَدٌّ لِلْوُجُوبِ، وَأَمَّا إثْبَاتُ السُّنِّيَّةِ فَهُوَ لِمَا قَرَرْته أَنَّهُ وَطْءٌ مُبَاحٌ أَصَالَةً ثُمَّ عَرَضَ لَهُ مُحَرِّمٌ لِعَارِضٍ هُوَ الْأَذَى فَكَفَّرَ ذَلِكَ لِيَرْجِعَ إلَى أَصْلِهِ مِنْ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ.
الثَّالِثُ: قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الْحِكْمَةُ فِي اخْتِلَافِ قَدْرِ الْكَفَّارَةِ بِأَوَّلِهِ وَآخِرِهِ أَنَّهُ فِي أَوَّلِهِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْجِمَاعِ فَغُلِّظَ عَلَيْهِ فِي الْكَفَّارَةِ إذْ لَا عُذْرَ لَهُ بِخِلَافِهِ فِي آخِرِهِ، فَإِنَّهُ بَعِيدُ عَهْدٍ بِهِ فَخُفِّفَ عَلَيْهِ فِيهَا لِعُذْرِهِ فَتَأَمَّلْ هَذَا، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ أَوْ صَرِيحٌ فِي أَنَّ وَطْءَ الزِّنَا لَيْسَ مُرَادًا هُنَا إذْ لَا عُذْرَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فِي كَوْنِهِ أَوَّلَ الدَّمِ أَوْ آخِرَهُ، بَلْ وَلَا مَعَ عَدَمِ الدَّمِ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يُمْكِنُ أَنَّ لِذَلِكَ الِاخْتِلَافِ حِكْمَةٌ أُخْرَى أَظْهَرُ: قُلْتُ: نَعَمْ لِأَنَّ أَوَّلَ الدَّمِ الْغَالِبُ فِيهِ النَّتْنُ وَمَزِيدُ الْقَذَارَةِ فَكَانَ التَّعَدِّي بِالْوَطْءِ فِيهِ أَقْبَحَ فَغُلِّظَ فِي كَفَّارَتِهِ بِخِلَافِهِ فِي آخِرِهِ فَإِنَّهُ خَفَّ الْأَذَى فَخُفِّفَ فِي كَفَّارَتِهِ، وَأَلْحَقُوا بِهَذَا مَا بَعْدَ انْقِطَاعِهِ إلَى الْغُسْلِ، وَإِنْ زَالَ الْأَذَى لِأَنَّ زَوَالَهُ حِسِّيٌّ لَا شَرْعِيٌّ؛ لِبَقَاءِ قَذَارَةِ الْبَدَنِ إلَى الْآنَ فَنُدِبَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا.
الرَّابِعُ: أَنَّ وَطْءَ الزِّنَا فِيهِ الْحَدُّ، وَهُوَ يُغْنِي عَنْ الْكَفَّارَةِ إذْ لَا يَجْتَمِعَانِ غَالِبًا فَإِنْ قُلْتَ: الْبَعِيدُ اجْتِمَاعُهُمَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا كَذَلِكَ هُنَا فَإِنَّ الْحَدَّ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ وَطْءَ زِنًا، وَالْكَفَّارَةُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ وَطْئًا فِي حَيْضٍ قُلْتُ: إنَّمَا يَظْهَرُ مُلَاحَظَةُ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَوْ طَرَأَ بِهَا تَحْرِيمُ حَلَالٍ كَمَا فِي الْحَلِيلَةِ، أَمَّا فِي الْأَجْنَبِيَّةِ فَلَا يَحْسُنُ مُرَاعَاتُهَا، فَإِنَّهَا لَمْ يُقَدَّرْ تَجَدُّدُ تَحْرِيمٍ يُنَاطُ بِهِ طَلَبُ كَفَّارَةٍ.
الْخَامِسُ: الْقِيَاسُ عَلَى مُسَافِرٍ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِالزِّنَا بِنِيَّةِ التَّرَخُّصِ أَوْ لَا؟ فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْثَمْ لِأَجْلِ الصَّوْمِ وَحْدَهُ، بَلْ لِأَجْلِ الزِّنَا وَحْدَهُ أَوْ مَعَ عَدَمِ نِيَّةِ التَّرَخُّصِ فَلَمْ يُنَاسَبْ مُخَاطَبَتُهُ بِالْكَفَّارَةِ الْمَطْلُوبَةِ لِأَجْلِ الصَّوْم، فَكَذَا يُقَالُ هُنَا: الزَّانِي فِي الْحَيْضِ لَمْ يَأْثَمْ لِأَجْلِ الْحَيْضِ وَحْدَهُ فَلَمْ يُنَاسَبْ مُخَاطَبَتُهُ بِالْكَفَّارَةِ الْمَطْلُوبَةِ لِأَجَلِ الْحَيْضِ فَتَأَمَّلْ هَذَا الْقِيَاسَ، فَإِنَّهُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ الْوَاطِئُ بِالشُّبْهَةِ كَالْحَلِيلِ فِي نَدْبِ الْكَفَّارَةِ، قُلْتُ: الْقِيَاسُ نَعَمْ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَمَّا رَفَعَتْ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ الذَّاتِيِّ بَقِيَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ الْعَرَضِيِّ لِأَجْلِ الْحَيْضِ فَنَاسَبَ جَبْرَهُ بِطَلَبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَلَى تَوَاتُرِ نَعْمَائِهِ وَتَوَارُدِ آلَائِهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ