وَجَزَمَ بِهِ فِي الْعُبَابِ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ الْحُمْرَةِ طُهْرٌ مُتَّحِدٌ وَيُبْتَدَأُ لِلْأَسْوَدِ حُكْمٌ جَدِيدٌ وَيُجْعَلُ مَا قَبْلَهُ دَوْرًا كَامِلًا يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوَّلَهُ حَيْضًا، وَبَاقِيهِ فَقَطْ طُهْرٌ جَعَلْنَا لِلثَّالِثِ هُنَا حُكْمًا جَدِيدًا وَمَا قَبْلَهُ دَوْرًا كَامِلًا يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوَّلَهُ حَيْضًا، وَبَاقِيَهُ طُهْرًا وَتَكُونُ بِهِ مُعْتَادَةً عَلَى مَا بَحَثَهُ النَّوَوِيُّ تَأْخُذُ بِهِ فِيهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ تَمْيِيزٌ مُعْتَبَرٌ.
وَإِنْ كَانَ حُدُوثُ الثَّالِثِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي فَقَدْ مَضَى الْأَوَّلُ بِدَوْرِهِ حَيْضًا وَطُهْرًا بِحُكْمِ عَدَمِ التَّمْيِيزِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهَا لَوْ رَأَتْ شَهْرًا دَمًا أَحْمَرَ ثُمَّ حَدَثَ لَهَا أَسْوَدُ بَعْدَهُ أَنَّ لَهَا فِي الْأَوَّلِ حَيْضًا وَطُهْرًا بِحُكْمِ غَيْرِ الْمُمَيِّزَةِ، وَفِي هَذَا الثَّانِي نَنْظُرُ فِي دَمِهَا إنْ كَانَ وُجِدَتْ شُرُوطُ التَّمْيِيزِ - فَمُمَيِّزَةٌ وَإِلَّا فَكَمَنْ لَمْ تَتَغَيَّرْ صِفَةُ دَمِهَا الثَّانِي أَنَّ الشَّيْخَيْنِ نَقَلَا عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ امْرَأَةٌ تُؤْمَرُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ إحْدَى وَثَلَاثِينَ يَوْمًا إلَّا هَذِهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ مَا قُلْنَاهُ إذْ لَوْ كَانَ مَا أَفْهَمَهُ كَلَامُ الْإِسْنَوِيِّ مِنْ نَسْخِ الدَّمِ لِمَا قَبْلَهُ مُطْلَقًا، وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ مُعْتَبَرًا لَمْ يَقُولُوا إنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ، وَهُمْ الَّذِينَ ذَكَرُوا صِفَاتِ الْقُوَّةِ، وَطَوَّلُوا أَمْثِلَتَهَا بِمَا لَا يَكَادُ يَقَعُ حِرْصًا عَلَى الْبَيَانِ.
الثَّالِثُ: مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا عَنْ الْمَذْهَبِ فِيمَنْ حُكِمَ لَهَا بِالتَّمْيِيزِ وَجُعِلَ قَوِيُّ دَمِهَا حَيْضًا، وَأَنَّ مَا لَحِقَهُ طُهْرٌ، وَإِنْ تَطَاوَلَ زَمَنُهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِسَبَبِهِ أَنَّ الْحُكْمَ لَهَا بِالتَّمْيِيزِ فَلَا يُغَيَّرُ إلَّا بِمُغَيِّرٍ إذْ الضَّعِيفُ كَالنَّقَاءِ فِي حَقِّهَا، فَهِيَ كَمَنَ حَاضَتْ أَيَّامًا ثُمَّ رَأَتْ النَّقَاءَ سَنَةً أَمَّا مَنْ لَمْ يُحْكَمْ لَهَا بِتَمْيِيزٍ فَحُكْمُهَا يُبْنَى عَلَى صِحَّةِ الطَّبِيعَةِ، وَأَنَّ دَمَهَا الصَّالِحَ لِلْحَيْضِ فِي وَقْتِهِ حَيْضٌ؛ وَلِذَلِكَ لَوْ رَأَتْ خَمْسًا حُمْرَةً ثُمَّ سِتَّةَ عَشَرَ سَوَادًا فَأَكْثَرَ جَعَلْنَا حَيْضَهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ أَوَّلِ الْأَحْمَرِ وَلَا نُلْغِيه لِمَا عَقِبَهُ مِنْ السَّوَادِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ لِلْحَيْضِ.
وَقَدْ قُلْنَا فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَيْضًا أَعْنِي مَسْأَلَةَ تَعَاقُبِ الدِّمَاءِ فِي الْأَشْهُرِ أَنَّ كُلَّ دَمٍ عَقِبَهُ أَقْوَى مِنْهُ، وَكِلَاهُمَا يَصْلُحُ لِلْحَيْضِ، الْحُكْمُ لِلْأَقْوَى إنْ كَانَ لَمْ يَعْقُبْهُ أَقْوَى مِنْهُ أَيْضًا وَإِلَّا فَيَكُونَانِ كَدَمٍ مُبْهَمٍ وَتَحِيضُ فِي كُلِّ شَهْرٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ أَوَّلِهِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهَا مَا لَا إشْكَالَ فِيهِ مِنْ تَمْيِيزٍ أَوْ صِحَّةِ نَقَاءٍ، وَحَيْثُ اسْتَمَرَّتْ بِدَمٍ وَاحِدٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُعْتَادَةً بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حَيْضًا وَتِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ طُهْرًا كَمَا سَبَقَ عَنْ النَّوَوِيِّ فِيمَنْ رَأَتْ سِتَّةَ عَشَرَ دَمًا أَحْمَرَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ الْأَسْوَدُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَيَكُونُ حَيْضُهَا الْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ بِحُكْمِ الْعَادَةِ إذْ مَضَى لَهَا حَيْضٌ كَذَلِكَ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ سَبَبَهُ اخْتِلَافُ دَمِهَا، وَنَسْخُ الْأَقْوَى مَا حَكَمَ بِهِ طُهْرًا بِاسْتِوَاءِ دَمِهِ فَهُوَ كَالْحُكْمِ بِالدَّوْرِ بِتَمْيِيزٍ كَامِلٍ هَذَا مَا ظَهَرَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ فَسَمْعًا وَطَاعَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْحَقِيقَةِ وَتُؤْخَذُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْمَنْقُولَةِ أَيْضًا فِيمَنْ رَأَتْ سِتَّةَ عَشَرَ أَحْمَرَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ أَسْوَدَ كَذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّ الْأَصْحَابَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ فِي الدَّمَيْنِ حَيْضَتَيْنِ، وَأَنَّ أَوَّلَ الْأَحْمَرِ حَيْضٌ وَحَكَمُوا فِيمَا بَعْدَهُ أَنَّ لَهَا طُهْرًا وَحَيْضًا حَيْثُ لَمْ يَصْلُحْ الْأَسْوَدُ؛ لِكَوْنِهِ حَيْضًا خَالِصًا.
وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: إنَّ أَوَّلَ الْحَيْضِ الثَّانِي أَوَّلُهُ وَبِهِ جَزَمَ فِي الْعُبَابِ كَمَا سَبَقَ، وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ أَوَّلُ الشَّهْرِ الثَّانِي، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ أَنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ يَخْلُو عَنْ الْحَيْضِ لَوْ انْقَطَعَ الْأَسْوَدُ بِأَقْوَى مِنْهُ لِثِخَنٍ أَوْ نَتْنٍ، وَتَصْرِيحُ ابْنِ سُرَيْجٍ بِاجْتِمَاعِ الْحَيْضَتَيْنِ فِي الشَّهْرِ دَلِيلٌ عَلَى إطْبَاقِهِمْ عَلَى مُرَاعَاةِ ثُبُوتِ الْحَيْضِ فِي كُلِّ شَهْرٍ بِدَمٍ صَالِحٍ لَهُ كَغَالِبِ الْعَادَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ مِنْ عِلَّةِ الِاسْتِحَاضَةِ.
(بَيَانُ مَا يُشْكِلُ فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ) اعْلَمْ أَنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الْمَأْخَذِ، وَوُجُوهُ اخْتِلَافِهَا عَلَى أَنْمَاطٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: مَسْأَلَتُنَا مَنْ رَأَتْ سَبْعَةً أَسْوَدَ ثُمَّ سَبْعَةً أَحْمَرَ ثُمَّ سَبْعَةً أَسْوَدَ وَمَنْ رَأَتْ ثَمَانِيَةً أَسْوَدَ ثُمَّ سَبْعَةً أَحْمَرَ ثُمَّ نِصْفَ يَوْمٍ أَسْوَدَ حَيْثُ حَكَمُوا بِأَنَّ الْحَيْضَ السَّوَادُ الْأَوَّلُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الْأَحْمَرِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَمَسْأَلَةُ ثَمَانِيَةٌ أَسْوَدُ ثُمَّ ثَمَانِيَةٌ أَحْمَرُ ثُمَّ ثَمَانِيَةٌ أَسْوَدُ، فَالثَّلَاثُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقَوِيَّ الصَّالِحَ لِلْحَيْضِ إذَا سَبَقَ ثُمَّ لَحِقَهُ مِثْلُهُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا وَبَيْنَهُمَا ضَعِيفٌ، فَالْأَوَّلُ حَيْضٌ وَهِيَ مُمَيِّزَةٌ بِالسَّبْقِ وَإِنْ طَالَ زَمَنُ الْأَخِيرِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِأَقْوَى مِنْهُ، وَمِثْلُهَا مَا لَوْ كَانَ الْقَوِيُّ الْأَوَّلُ دُونَ الْحَيْضِ وَالْآخَرُ قَدْرَهُ، وَلَا يَجْتَمِعَانِ حَيْضًا كَنِصْفِ يَوْمٍ أَسْوَدَ ثُمَّ نِصْفِهِ أَحْمَرَ، وَكَذَا ثَلَاثَةٌ أَحْمَرُ ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ أَسْوَدُ، فَالْأَخِيرُ هُوَ الْحَيْضُ فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ وَجْهُهَا وَاحِدٌ وَإِشْكَالُهَا مِنْ فَقْدِ شَرْطِ التَّمْيِيزِ فَإِنَّ مِنْ شُرُوطِهِ أَنْ لَا يَزِيدَ الْقَوِيُّ عَلَى خَمْسَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute