الرَّافِعِيَّ صَرَّحَ بِخِلَافِهِ فِي مَوَاضِعَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ بَحْثَهُ لِذَلِكَ إنَّمَا هُوَ تَبَعٌ لِبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ كَابْنِ الْقُشَيْرِيِّ. قَالَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلْجَمِيعِ بَلْ لِآحَادِ مُسَمَّيَاتِهِ عَلَى الْبَدَلِ اهـ.
وَمَحَلُّ الْخِلَافِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ تُعَيِّنُ أَحَدَ مَعَانِيهِ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ وُجِدَتْ حُمِلَ عَلَيْهَا قَطْعًا.
(تَنْبِيهٌ) مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ أَنَّهُ يُوجِبُ حَمْلَ الْمُشْتَرَكِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ، هُوَ مَا اُشْتُهِرَ عَنْهُ فِي كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْأَصْحَابِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَقَالَ: لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ صَرِيحٌ فِيهِ، وَإِنَّمَا اسْتَنْبَطُوا هَذَا مِنْ نَصِّهِ فِيمَا لَوْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ أَوْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ وَلَهُ مَوَالٍ مِنْ أَعْلَى وَمِنْ أَسْفَلَ أَنَّهُ يُصْرَفُ لِلْجَمِيعِ، وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ لَا يَصِحُّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ اسْمَ الْمَوْلَى مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ، وَأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَعِنْدَ هَذَا الِاحْتِمَالِ فَكَيْفَ يُحْكَى عَنْهُ ذَلِكَ قَاعِدَةً كُلِّيَّةً. اهـ.
وَالْقَوْلُ بِالتَّوَاطُؤِ بِأَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى جِهَةِ التَّوَاطُؤِ، وَهُوَ الْمُوَالَاةُ وَالْمُنَاصَرَةُ نَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ شَيْخِهِ عِمَادِ الدِّينِ فِي الْمَطْلَبِ ثَمَّ رَدَّهُ بِمَا فِيهِ خَفَاءٌ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ بَابِ التَّوَاطُؤِ لَمْ يَأْتِ الْخِلَافُ: هَلْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ وَالْوَقْفُ أَوْ لَا؟ وَعَلَى الصِّحَّةِ هَلْ يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى الْمَوْلَى مِنْ أَعْلَى أَوْ عَلَى الْمَوْلَى مِنْ أَسْفَلَ أَوْ يُوقَفُ؟ أَقْوَالٌ. فَاخْتِلَافُهُمْ فِيهِ كَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ لَا مِنْ بَابِ التَّوَاطُؤِ فَانْدَفَعَ اعْتِرَاضُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ أَيْضًا، وَبَانَ أَنْ تَجْوِيزَهُ احْتِمَالَ التَّوَاطُؤِ فِي لَفْظِ الْمَوْلَى غَيْرُ صَحِيحٍ، وَأَنَّ اسْتِنْبَاطَ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورَ صَحِيحٌ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ.
وَلَقَدْ قَالَ السُّبْكِيّ عَنْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ: وَهَذَا الرَّجُلِ كُنْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ فِي إنْكَارِهِ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي إنْكَارِهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إذَا حُلِفَ بِهِ، ثَمَّ ظَهَرَ لِي مِنْ حَالِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي نَقْلٍ تَفَرَّدَ بِهِ لِمُسَارَعَتِهِ إلَى النَّقْلِ بِفَهْمِهِ، وَلَا فِي بَحْثٍ يُنْشِئُهُ لِخَلْطِهِ الْمَقْصُودَ بِغَيْرِهِ وَخُرُوجِهِ عَنْ الْحَدِّ جِدًّا، وَهُوَ كَانَ مُكْثِرًا مِنْ الْحِفْظِ وَلَمْ يَتَهَذَّبْ بِشَيْخٍ وَلَمْ يَرْتَضِ فِي الْعُلُومِ، بَلْ يَأْخُذُهَا بِذِهْنِهِ مَعَ جَسَارَتِهِ وَاتِّسَاعِ خَيَالِهِ وَشَغَبٍ كَثِيرٍ، ثَمَّ بَلَغَنِي مَنْ حَالِهِ مَا يَقْتَضِي الْإِعْرَاضَ عَنْ النَّظَرِ فِي كَلَامِهِ جُمْلَةً، وَكَانَ النَّاسُ فِي حَيَاتِهِ اُبْتُلُوا بِالْكَلَامِ مَعَهُ لِلرَّدِّ عَلَيْهِ، وَحُبِسَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَنَا غَرَضٌ فِي ذِكْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ وَلَكِنْ لَهُ أَتْبَاعٌ يَنْعَقُونَ وَلَا يَعُونَ اهـ.
وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ الْمُبَالَغَةَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ ثَمَّ عَقَّبْتُهُ بِكَلَامِ السُّبْكِيّ هَذَا؛ لِأَنِّي رَأَيْتُ مَنْ يَعْتَرِضُ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ فِي حَمْلِهِمْ الْمُشْتَرَكَ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ، وَيَحْتَجُّ بِكَلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ هَذَا، وَقَدْ دَلَّ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْأُمِّ وَغَيْرِهَا عَلَى حَمْلِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ كَمَا قَرَّرْتُ فِي مَحَلِّهَا، وَالِاعْتِرَاضُ بِأَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْ الشَّفَقَ عَلَى مَعْنَيَيْهِ الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ غَفْلَةٌ عَنْ أَنَّ سَبَبَ تَخْصِيصِهِ لَهُ بِالْأَحْمَرِ وُرُودُ التَّقْيِيدِ بِهِ فِي حَدِيثٍ، وَكَذَا حَيْثُ خَصَّصَ مُشْتَرَكًا بِأَحَدِ مَعَانِيهِ فَإِنَّمَا هُوَ الدَّلِيلُ أَوْ قَرِينَةٌ كَمَا يُعْرَفُ بِتَأَمُّلِ مَوَاقِعِ كَلَامِهِ وَاسْتِنْبَاطَاته، ثَمَّ الْخِلَافُ فِي حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ إنَّمَا هُوَ فِي الْكُلِّيِّ الْعَدَدِيِّ أَيْ فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَهُ يَدُلّ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا عَلَى حِدَتِهِ بِالْمُطَابَقَةِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ بِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْكُلَّ الْمَجْمُوعِيَّ أَيْ: يَجْعَلُ مَجْمُوعَ الْمَعْنَيَيْنِ مَدْلُولًا مُطَابِقًا كَدَلَالَةِ الْخَمْسَةِ عَلَى آحَادِهَا وَلَا الْكُلِّيِّ الْبَدَلِيِّ أَيْ: يَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مَدْلُولًا مُطَابِقًا عَلَى الْبَدَلِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ: مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا أُرِيدَ بِالْمُشْتَرَكِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْهِ، وَأَمَّا إرَادَةُ الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُصَيِّرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ جُزْءَ الْمَعْنَى، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يُصَيِّرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ الْمَعْنَى بِتَمَامِهِ.
وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي الْكُلِّيِّ الْمَجْمُوعِيِّ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ عَنَدَ الشَّافِعِيِّ كَالْعَامِّ اهـ. وَهَذَا النَّقْلُ عَنْ الْأَكْثَرِ يُعْرَفُ بِتَحْرِيرِ أَنَّ حَمْلَ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعَانِيهِ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْعُمُومِ أَوْ الِاحْتِيَاطِ؟ وَفِيهِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: وَعَلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّهُ كَالْعَامِّ وَأَنَّ نِسْبَةَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ إلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ كَنِسْبَةِ الْعَامِّ إلَى جَمِيعِ أَفْرَادِهِ. وَالْعَامُّ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ الْقَرَائِنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute