يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِهِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، فَكَذَا الْمُشْتَرَكُ وَتَضْعِيفُ النَّقْشَوَانِيِّ لَهُ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّفْظَ حِينَئِذٍ مُتَوَاطِئٌ لَا مُشْتَرَكٌ، وَبِأَنَّ الْأَئِمَّةَ لَمْ يُرِيدُوا الْعُمُومَ وَإِنَّمَا وَهْمُ النَّاقِلِ عَنْهُمْ ذَلِكَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ تَوْهِيمَهُمْ النَّاقِلَ عَنْ الْأَئِمَّةِ وَهْمٌ، وَمُرَادُهُمْ أَنَّ الْمُشْتَرَكُ كَالْعَامِّ فِي مَعْنَى اسْتِغْرَاقِهِ لِمَدْلُولَاتِهِ وَوُجُوبِ حَمْلِهِ عَلَى جَمِيعِهَا حَيْثُ لَا قَرِينَةَ، فَهُوَ كَالْعَامِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَا أَنَّ الْأَفْرَادَ الدَّاخِلَةَ تَحْتَ الْمُشْتَرَكِ كَالْأَفْرَادِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْعَامِّ حَتَّى يَلْزَمَ التَّوَاطُؤُ لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، كَيْفَ وَأَفْرَادُهُ مَحْصُورَةٌ؟ بِخِلَافِ الْعَامِّ وَقَدْ حَمَلُوهُ عَلَى مَعَانِيهِ حَتَّى فِي النَّكِرَةِ الْمُفْرَدَةِ وَالْفِعْلِ مَعَ أَنَّهُ لَا عُمُومَ فِيهِمَا.
ثَانِيهِمَا وَعَلَيْهِ الْفَخْرُ الرَّازِيّ: أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا: بِالتَّوَقُّفِ لَزِمَ تَعْطِيلُ النَّصُّ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، أَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَحَدِهَا لَزِمَ التَّحَكُّمُ فَلِمَ يَبْقَ إلَّا الْحَمْلُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَهُوَ أَحْوَطُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَدْلُولَاتِ اللَّفْظِ بِأَسْرِهِمْ؛ وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ مُمْتَنِعٌ، فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الْعَمَلِ بِالْخِطَابِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَحَدُهَا عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْكُلُّ.
وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: إنْ لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِهَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْكُلِّ لَا لِأَنَّهُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَضْعًا، بَلْ لِأَنَّ اللَّفْظَ دَالٌّ عَلَى أَحَدِهَا وَلَمْ يَتَعَيَّنْ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهِ إلَّا بِالْجَمِيعِ، إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ ظَهَرَ وَاتَّضَحَ مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْمَوْلَى مُشْتَرَكٌ وَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ، وَأَنَّ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ تَنَاوُلِهِ لِأَوْلَادِ الْعَتِيقِ هُوَ الْحَقُّ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَلَا نَقْضَ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ فِيهِ ذَلِكَ ثَبَتَ فِي الْعُتَقَاءِ فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَكُونَ مُشْتَرَكًا كَالْأَوَّلِ؟ قُلْتُ: الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَمْ تُعْلَمْ حَقِيقَتُهُ وَمَدْلُولُهُ وَمُسَمَّاهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ حَيْثُ قَالَ فِي الْخَبَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» فَكَانَ مِنْ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ غَالِبًا مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الثَّلَاثِ يُعْرَفُ مِنْ قَوْلِهِمْ: الْوَضْعُ الْمُعْتَبَرُ إمَّا وَضْعُ اللُّغَةِ وَهِيَ اللُّغَوِيَّةُ كَالْأَسَدِ لِلْحَيَوَانِ الْمُفْتَرِسِ، وَإِمَّا وَضْعُ الشَّرْعِ وَهِيَ الشَّرْعِيَّةُ كَالصَّلَاةِ لِلْأَرْكَانِ، وَقَدْ كَانَتْ لُغَةً لِلدُّعَاءِ، وَإِمَّا وَضْعُ الْعُرْفِ وَهِيَ الْعُرْفِيَّةُ بِأَنْ يَنْقُلَ اللَّفْظَ أَهْلُ الْعُرْفِ عَنْ وَضْعِهِ الْأَصْلِيِّ إلَى مَا يَتَعَارَفُونَهُ بَيْنَهُمْ.
وَالْأَصْلُ اللُّغَوِيَّةُ إذْ كُلٌّ مِنْ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ نَاقِلٌ لِلْمَوْضُوعِ اللُّغَوِيِّ إلَى غَيْرِهِ، فَالْوَضْعُ فِي اللُّغَوِيَّةِ غَيْرُهُ فِيهِمَا إذْ الْأَوَّلُ تَعْلِيقُ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ مَعْنًى لَمْ يُعْرَفْ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْوَضْعِ الثَّانِي وَالثَّالِثُ: بِمَعْنَى غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لُغَةً، إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ الشَّارِعِ أَنَّهُ وَضَعَ لَفْظَ نَحْوِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِإِزَاءِ مَعَانِيهَا الشَّرْعِيَّةِ بَلْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِإِزَاءِ تِلْكَ الْمَعَانِي حَتَّى صَارَتْ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ مَهْجُورَةً، وَكَذَلِكَ الْعُرْفُ فَإِنَّ أَهْلَهُ لَمْ يَضَعُوا الْقَارُورَةَ مَثَلًا لِلظَّرْفِ مِنْ الزُّجَاجِ عَلَى جِهَةِ الِاصْطِلَاحِ، كَمَا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَضَعْ لَفْظَ الزَّكَاةِ لِقَطْعِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِ لِنَحْوِ الْفُقَرَاءِ، بَلْ صَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ شَرْعِيَّةً وَعُرْفِيَّةً بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ دُونَ أَنْ يَسْبِقَهُ تَعْرِيفٌ بِتَوَاضُعِ الِاسْمِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ لِلشَّرْعِ وَضْعًا كَاللُّغَةِ، فَإِنَّ الْوَضْعَ تَعْلِيقُ لَفْظٍ بِإِزَاءِ مَعْنًى لَكِنْ يَخْتَلِفَانِ فِي سَبَبِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ: إعْلَامُ الْغَيْرِ بِأَنَّهُ وُضِعَ لِذَلِكَ وَفِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ: كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ وَفِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ الْمُرَادُ بِالشَّرِيعَةِ: اللَّفْظَةُ الَّتِي اُسْتُفِيدَ وَضْعُهَا لِلْمَعْنَى مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ غَيْرِهِ مَا كَانَ مَعْنَاهُ ثَابِتًا بِالشَّرْعِ فَالِاسْمُ مَوْضُوعٌ لَهُ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: تَارَةً يُسْتَفَادُ الْمَعْنَى مِنْ الشَّرْعِ وَاللَّفْظُ مِنْ اللُّغَةِ وَتَارَةً عَكْسُهُ وَالْكُلُّ أَسَامٍ شَرْعِيَّةٌ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهَلْ الْمُرَادُ بِالْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَى لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ مِمَّا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ أَوْ وَإِنْ وَافَقَهُ الظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، فَإِطْلَاقُ حَمَلَةُ الشَّرْعِ لَفْظَ الصَّلَاةِ عَلَى الدُّعَاءِ فِي مَوَاضِعَ لَا ضَرُورَةَ بِنَا إلَى صَرْفِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ إلَى مَجَازِهِ الشَّرْعِيِّ، إذْ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ مَتَى أَمْكَنَتْ لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إلَى ادِّعَاءِ الْمَجَازِ الشَّرْعِيِّ.
وَتَنْقَسِمُ الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ إلَى أَرْبَعَة أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى مَعْلُومَيْنِ لِأَهْلِ اللُّغَةِ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَضَعُوا ذَلِكَ الِاسْمَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى كَلَفْظَةِ الرَّحْمَنِ لِلَّهِ، الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا غَيْرَ مَعْلُومَيْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute