كَلَامِ الْوَاقِفِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي ذَلِكَ وَلَا احْتِيَاجَ لِقَرِينَةٍ، وَحِينَئِذٍ اتَّضَحَ مَا اُسْتُفِيدَ مِنْ الْأَجْوِبَةِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ فَلْيُعْمَلْ بِمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّهُ مَتَى بَقِيَ مِنْ أَوْلَادِ الْعُتَقَاءِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِينَ لَا يُصْرَفُ شَيْءٌ إلَى جِهَةِ الْحَرَمِ النَّبَوِيِّ عَلَى مَشْرِفِهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، وَتَأَمَّلْ تَصْرِيحَ الْأَصْحَابِ بِأَنَّ الْوَلَاءِ عَلَى قِسْمَيْنِ: وَلَاءُ الْمُبَاشَرَةِ وَوَلَاءُ الِاسْتِرْسَالِ وَالسِّرَايَةِ قَالُوا: وَهُوَ الَّذِي يَثْبُتُ عَلَى أَوْلَادِ الْعَتِيقِ وَأَحْفَادِهِ تَبَعًا لِثُبُوتِهِ عَلَى أَبِيهِمْ، فَصَرَّحُوا بِأَنَّ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ عَلَى فُرُوعِ الْعَتِيقِ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ صَرَّحُوا بِأَنَّ لَفْظَ الْمَوْلَى مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْعَتِيقِ وَفُرُوعِهِ، فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا أَيْ شَرْعًا كَمَا قَدَّمْتُهُ وَلَمْ يُبَالُوا بِأَنَّ ثُبُوتَهُ فِي أَحَدِهِمَا إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ التَّبَعِ لِمَا قَرَّرْتُهُ مِنْ أَنَّ أَئِمَّةَ الشَّرْعِ أَطْلَقُوهُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ إطْلَاقًا وَاحِدًا، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النِّعْمَةَ عَلَى الْأَصْلِ نِعْمَةٌ عَلَى الْفَرْعِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقِ مِنْ عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ فَلَمَّا كَانَ حَقِيقَةً فِيهِمَا كَانَ مُشْتَرَكًا.
وَهَذَا جَمِيعُهُ جَارٍ بِعَيْنِهِ فِي إطْلَاقِ الْعَتِيقِ عَلَى مِنْ بَاشَرَهُ الْعِتْقُ وَمَنْ سَرَى إلَيْهِ مَنْ فُرُوعِهِ، فَكَانَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً فِيهِمَا أَيْضًا فَلْيُحْمَلْ عَلَيْهِمَا مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ كَمَا تَقَرَّرَ، فَإِنْ قُلْتَ يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ إطْلَاقُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْأَوْلَادِ لَا يَتَنَاوَلُ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ قُلْتُ: الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَلَفْظِ الْمَوْلَى وَالْعَتِيقِ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذَيْنِ لَمْ يُعْرَفْ مَدْلُولُهُمَا إلَّا مِنْ الشَّارِعِ وَأَئِمَّةِ الشَّرْعِ فَحَسْبُ، فَلِمَ يَكُنْ لِلُّغَةِ فِيهِمَا مَدْخَلٌ حَتَّى يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِمَا بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ فَإِنَّ لَهُ مَدْلُولًا لُغَوِيًّا لَمْ يَنْقُلْهُ الشَّارِعُ عَنْهُ وَلَا صَرَفَهُ إلَى غَيْرِهِ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى مَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ، إذْ لَا مُعَارِضَ لَهُ كَمَا هُوَ الْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ، وَمَدْلُولُهُ اللُّغَوِيِّ هُوَ الْأَوْلَادُ حَقِيقَةً وَأَوْلَادُ الْأَوْلَادِ مَجَازًا، وَإِذَا تَعَارَضَ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ حُمِلَ عَلَى الْحَقِيقَة وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْمَجَاز مَعَهَا أَوْ وَحْدَهُ إلَّا بِقَرِينَةٍ، وَعَلَى هَذَا جَرَى أَصْحَابُنَا فِي بَاب الْوَقْف فَقَالُوا: لَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأَوْلَادِ إلَّا بِقَرِينَةٍ، وَأَمَّا إلْحَاقُهُمْ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ بِالْأَوْلَادِ فِي بَاب الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهِ فَلِأَدِلَّةٍ وَمَدَارِكٍ تَخُصُّهَا فَظَهَرَ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ فِي الْأَوْلَادِ وَأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ فِي سَائِرِ الْأَبْوَابِ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَوْلَى، وَلَا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَتِيقِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَاهُ كَمَا تَقَرَّرَ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِمَّا يُسْتَفَادُ وَيُحْتَاجُ إلَيْهِ، إذْ بِهِ يَنْكَشِف إشْكَالٌ رُبَّمَا يُورَدُ عَلَى مَا قَالُوهُ فِي دُخُولِ الْأَوْلَادِ دُون أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ وَدُخُولِ الْمَوْلَى وَأَوْلَادِهِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْمَوْلَى، وَمِثْلُهُ الْعَتِيقُ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ بَاشَرَهُ الْعِتْقُ وَأَوْلَادُهُ، فَإِنْ قُلْت: يُنَافِي مَا قَرَّرْته فِي هَذَا الْمَبْحَثِ قَوْلُ السُّبْكِيّ فِي أَثْنَاءِ إيرَادٍ أَوْرَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَنَحْنُ إنَّمَا نَرْجِعُ فِي الْأَوْقَافِ إلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ وَاقِفِهَا سَوَاءٌ أَوَافَقَ ذَلِكَ عُرْفَ الْفُقَهَاءِ أَمْ لَا، قُلْت: لَا يُنَافِيهِ لِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ تَنْزِيلُ لَفْظِ الْوَاقِفِ عَلَى عُرْفِ الْفُقَهَاءِ، أَمَّا إذَا أَمْكَنَ تَنْزِيلُهُ عَلَيْهِ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ السُّبْكِيّ نَفْسُهُ فِي أَثْنَاءِ جَوَابِ هَذَا الْإِيرَادِ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ كَلَام الْوَاقِفِ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ لَمْ يُخَالِفْ الْفُقَهَاءَ، قَالَ: فَقْد ظَهَرَ إمْكَانُ حَمْلِ كَلَامِ الْوَاقِفِ عَلَى مَا لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَكَلَامَ الْفُقَهَاءِ، وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ اهـ.
(الْمَبْحَث الثَّانِي) فِي بَيَانِ أَنَّا إذَا تَنَزَّلْنَا وَقُلْنَا: إنَّ لَفْظَ الْعَتِيقِ لَا يَشْمَلُ أَوْلَادَهُ إلَّا مَجَازًا، وَأَنَّ قَوْل الْوَاقِفِ السَّابِقَ إلَى أَنْ يَبْقَى مِنْ الْعُتَقَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِيهِ جَمْعٌ بَيْن الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ اللُّغَوِيَّيْنِ، فَالْأَوْجَهُ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْأَجْوِبَةِ الثَّلَاثَةِ، الْأَوَّلُ لِأُمُورٍ بَعْضُهَا ذَكَرَهُ أَئِمَّتُنَا فِي الْأُصُولِ، وَبَعْضُهَا ذَكَرَهُ أَئِمَّتُنَا فِي بَابِ الْوَقْفِ، وَبَعْضُهَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْوَاقِفِ، الْأَوَّلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا كَمَا فِي الرَّوْضَةِ فِي الْإِيمَانِ جَوَازُ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَكَأَنَّ الرَّافِعِيَّ لَمْ يَقِفْ عَلَى النَّقْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِيهِمَا مُسْتَبْعَدٌ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ وَهُوَ عَلَى مِنْوَالِ مَا سَبَقَ عَنْهُ فِي الْمُشْتَرَكِ، وَمَرَّ رَدُّهُ، وَمَنْ نَقَلَ عَنْ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ الْمَنْعَ وَأَطْلَقَ، فَقْد وَهِمَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَنَعَ الْحَمْلَ لَا الِاسْتِعْمَالَ حَيْثُ قَالَ فِي تَقْرِيبِهِ، وَتَبِعَهُ الْإِمَامُ فِي تَلْخِيصِهِ: اعْلَمْ أَنْ إرَادَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ لَا يَخْطِرُ لَهُ التَّعَرُّضُ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، لَكِنْ يُقْتَصَرُ عَلَى إرَادَةِ الْمُسَمَّيَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِكَوْنِ وَجْهَ الِاسْتِعْمَالِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَجَرَى عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute