مِنْوَالٍ وَاحِدٍ فَجَوَّزَ اسْتِعْمَالَهُ فِيهِمَا وَحَمَلَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَيْهِمَا، وَأَخْرَجَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْمَطْلَبِ نَصَّهُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأُمِّ عِنْدَ الْكَلَامِ فِيمَا إذَا عَقَدَ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتَيْنِ، وَلَمْ يُعْلَمْ السَّابِقُ مِنْهُمَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: إنَّهُ ظَاهِرُ اخْتِيَارِ الشَّافِعِيِّ أَيْ: بَلْ هُوَ صَرِيحُ كَلَامِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: ٤٣] قِيلَ لَهُ: أَرَادَ بِالْمُلَامَسَةِ الْجِمَاعَ؟ فَقَالَ: أَحْمِلُهُ عَلَى الْجَسِّ بِالْيَدِ حَقِيقَةً وَعَلَى الْوِقَاعِ مَجَازًا، وَكَذَلِكَ صَرَّحَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: ٤٣] بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَاةِ حَقِيقَةً بِدَلِيلِ: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: ٤٣] وَعَلَى مَحَلِّهَا، وَهُوَ الْمَسْجِدُ مَجَازًا بِدَلِيلِ: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: ٤٣]
وَأَمَّا نَصُّهُ فِي الْبُوَيْطِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَهُمْ عُتَقَاءُ لَمْ يَدْخُلُوا مَعَ أَنَّهُمْ مَوَالِيهِ مَجَازًا بِالسَّبَبِيَّةِ، وَقَوْلُهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ لَمْ يَدْخُلْ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، بَلْ لِأَنَّ الْقَرِينَةَ هُنَا عَيَّنَتْ الْحَقِيقَةَ وَحْدَهَا أَمَّا فِي الْأَوَّلِ؛ فَلِأَنَّ وَلَاءَ مَوَالِيهِمْ لَهُمْ دُونَهُ كَمَا مَرَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَقَالَ الْغَزَالِيُّ: التَّعْمِيمُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَقْرَبُ مِنْهُ بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ اهـ.
وَفِيهِ خَفَاءٌ يَحْتَاجُ لِتَوْضِيحٍ وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْأَوْلَادَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ فِي الْبَطْنِ الْأَوَّلِ وَأَوْلَادَ الْأَوْلَادِ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ فِي الْبَطْنِ الثَّانِي، فَإِرَادَةُ هَذَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ بَعِيدَةٌ، إذْ لَا تَقْرِيبَ لِلِاسْتِعْمَالِ حِينَئِذٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سُمِّيَ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ أَوْلَادًا مَجَازًا مِنْ تَسْمِيَةِ الْمُسَبَّبِ بِاسْمِ السَّبَبِ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِمْ لَفْظُ الْأَوْلَادِ لِتِلْكَ الْعَلَاقَةِ مَعَ إرَادَةِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، فَإِنَّهُ لَا بُعْدَ فِيهِ نَظَرًا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْعَلَاقَةِ الْمُقَرِّبَةِ لِلِاسْتِعْمَالِ فَاتَّضَحَ أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ بِعَدَمِ دُخُولِ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ فِي الْأَوْلَادِ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ مَعَ مَا فِي الْأَوَّلِ مِنْ الْبُعْدِ بِخِلَافِ الثَّانِي، هَذَا وَالْأَوْلَى فِي الْفَرْقِ مَا أَشَرْتُ إلَيْهِ بِالْفَرْقِ الَّذِي قَدَّمْتُهُ قَبْلَ الْمَبْحَثِ الثَّانِي فَتَأَمَّلْهُ، فَإِنَّهُ أَوْضَحُ مِمَّا أَشَارَ إلَيْهِ الْغَزَالِيُّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إرَادَةِ اللَّافِظِ أَوْ قِيَامِ قَرِينَةٍ عَلَى إرَادَتِهِ، وَالْكَلَامُ فِي وَاقِفٍ لَمْ تُعْلَمْ إرَادَتُهُ وَلَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ عَلَى إرَادَتِهِ لِأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ ثَمَّ رَأَيْتُ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ فِي الْمُسْتَصْفَى وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا مَرَّ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَطَعَ بِمَنْعِ الْجَمْعِ بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ وَتَرَدَّدَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَقَالَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا: هُوَ عِنْدَنَا كَالْمُشْتَرَكِ وَإِنْ كَانَ التَّعْمِيمُ فِيهِ أَقْرَبَ قَلِيلًا اهـ.
وَسَبَبُ الْأَقْرَبِيَّةِ مَا أَشَرْت إلَيْهِ قَرِيبًا فَتَأَمَّلْهُ وَأَمَّا مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ مِنْ جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ وَامْتِنَاعِهِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنْ قُلْت: يُؤَيِّدُهُ مَا تَقَرَّرَ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مِنْ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعَانِيهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، قُلْت: لَا تَأْيِيدَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي الْأَخِيرَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنَّمَا هُوَ لِضَرُورَةِ وُجُودِ الْمَجَازِ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ لَا مَجَازَ فِيهِ فَلَمْ يَحْتَجْ لِقَرِينَةٍ، فَالِاحْتِيَاجُ لَهَا وَعَدَمُهُ أَمْرٌ خَارِجٌ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الْجَمْعَ مَعَ وُجُودِهَا أَقْرَبُ مِنْهُ فِي الْجَمْعِ بِهِ فِي الْمُشْتَرَكِ كَمَا هُوَ جَلِيٌّ، وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي مِنْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ يَلْزَمُهُ مُحَاوَلَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ نَقِيضَيْنِ يُرَدُّ بِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَلْزَمُ حَيْثُ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَمَعَ اعْتِبَارٍ وَاحِدٍ، أَمَّا إذَا كَانَ مِنْ حَيْثِيَّتَيْنِ بِاعْتِبَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مُحَاوَلَةُ جَمْعٍ بَيْنَ نَقِيضَيْنِ وَقَطْعًا فَتَأَمَّلْهُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ الْأُصُولِيِّينَ تَعَقَّبَ الْقَاضِيَ فِي كَلَامِهِ هَذَا وَهُوَ جَدِيرٌ بِالتَّعَقُّبِ وَالرَّدِّ كَمَا عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْتُهُ.
ثُمَّ رَأَيْت مَا ذَكَرْتُهُ عَنْ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا رَدَدْت بِهِ كَلَامَ الْقَاضِي، وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مُطْلَقًا وَنَقَضَ عَلَيْهِمْ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي الدَّارِ فَدَخَلَ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا حَنِثَ نَظَرًا لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَقَوْلِهِمْ لَوْ قَالَ: الْيَوْمُ الَّذِي أَدْخُلُ فِيهِ الدَّارَ عَبْدِي حُرٌّ عَتَقَ بِدُخُولِهِ لَهَا وَلَوْ لَيْلًا، وَقَوْلِهِمْ لَوْ أَخَذَ الْأَمَانَ لِبَنِيهِ دَخَلَ بَنُوهُ وَبَنُو بَنِيهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِنَا عَدَمُ الْحِنْثِ فِي الْأَوَّلِ إذَا دَخَلَ رَاكِبًا إذْ لَا قَرِينَةَ عَلَى إرَادَةِ الْمَجَازِ، وَفِي الثَّانِي مُوَافَقَتُهُمْ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ التَّتِمَّةِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ طَلُقَتْ حَالًا وَلَوْ لَيْلًا، وَيَلْغُو ذِكْرُ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْ وَإِنَّمَا سَمَّى الْوَقْتَ بِغَيْرِ اسْمِهِ كَذَا قِيلَ.
وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ؛
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute