وَلَا نَقْصٍ، وَإِذَا كَانَ الْبُلْقِينِيُّ مُفْتِيًا فِي مَسْأَلَتِنَا بِذَلِكَ فَكَفَى بِهِ حُجَّةً وَمُسْتَنَدًا لِمَا قُلْنَاهُ وَحَرَّرْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ، وَلِمَ لَا؟ وَالْمُحَقِّقُ أَبُو زُرْعَةَ الَّذِي قِيلَ فِي تَرْجَمَتِهِ مَا رَأَى مِثْلَ نَفْسِهِ يَقُولُ فِي حَقِّ شَيْخِهِ السِّرَاجِ الْبُلْقِينِيُّ بَعْدَ أَنْ أَطْنَبَ فِي تَرْجَمَتِهِ: وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ كَمُلَتْ فِي شَيْخِنَا هَذَا شُرُوطُ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ.
فَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَتَمُّ الْحَمْدِ وَأَكْمَلُهُ وَأَزْكَاهُ وَأَنْمَاهُ وَأَشْمَلُهُ وَأَفْضَلُهُ، إذْ وَافَقْتُ أَنَا وَأَصْحَابُ الْأَجْوِبَةِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ هَذَا الْحَبْرَ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ لَفْظَ الْعُتَقَاءِ يَشْمَلُ فُرُوعَهُمْ إذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَافِيًا فِي الْحُجَّةِ، وَلِذَا لَوْ اطَّلَعْت عَلَيْهِ فِي الْأُوَلِ لَاكْتَفَيْتَ بِهِ وَلَمْ أُتْعِبْ نَفْسِي فِيمَا سَبَقَ وَلَا فِيمَا يَأْتِي، لَكِنَّ فِي ذَلِكَ فَرَائِدَ وَفَوَائِدَ وَقَوَاعِدَ لَا بَأْسَ بِاسْتِفَادَتِهَا، فَإِنَّهَا تَزِيدُ الْحَقَّ وُضُوحًا وَظُهُورًا وَتُبْلِجُ الصَّدْرَ سُرُورًا وَحُبُورًا وَتُعِينُ عَلَى إدْرَاكِ عَوِيصَاتِ الْوَقَائِعِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا بِخُصُوصِهَا مَنْقُولٌ وَلَا يُهْتَدَى لِدَرْكِ الْحُكْمِ فِيهَا بِمُجَرَّدِ الْمَعْقُولِ، يَسَّرَ اللَّهُ لَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَلِكَ وَجَعَلَنَا مِمَّنْ تَحَقَّقَ بِإِدْرَاكِ هَذِهِ الْمَسَالِكِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ.
الْأَمْرُ السَّابِعُ: قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي تَوَسُّطِهِ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّ الْأَئِمَّةَ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِ الْوَاقِفِ وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْوَقْفُ إلَيْهِ كَانَ لِوَلَدِهِ إذَا انْتَقَلَ إلَيْهِ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَى أَبِيهِ، فَكَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً زَعَمَ الْقَاضِي بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ أَنَّ نَصِيبَهَا لَا يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدِهَا بِحُكْمِ هَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ بِلَفْظِ الْأَبِ، فَلَا يَتَنَاوَلُ الْأُمَّ، وَأَنَّ التَّاجَ الْفَزَارِيّ إمَامَ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَنِهِ وَكَانَ مِنْ مُعَاصِرِي النَّوَوِيِّ لَكِنَّهُ كَانَ أَشْيَعَ وَأَشْهَرَ مِنْ النَّوَوِيِّ قَالَ: إنَّ لَفْظَ الْأَبِ جَاءَ لِلتَّغْلِيبِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَأَفْتَى بِذَلِكَ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَسَاعَدَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ وَبَلَغَهُ أَنَّ السُّؤَالَ عُرِضَ عَلَى الشَّرَفِ الْمَقْدِسِيِّ وَالزِّيَنِ بْنِ عُمَرَ مَكِّيٌّ فَامْتَنَعَا مِنْ الْكِتَابَةِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْقَاضِي بَهَاءِ الدِّينِ، فَحَوْقَلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاسْتَرْجَعَ لِذَلِكَ اهـ كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ، وَهُوَ صَرِيحٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلتَّاجِ وَمُوَافِقِيهِ وَمُنْكِرٌ عَلَى الْبَهَاءِ الزَّكِيِّ وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْكِتَابَةِ لِأَجْلِهِ.
وَإِذَا عَلِمْت أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّ الْأَبَ اُسْتُعْمِلَ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَلَمْ يُبَيِّنُوا لِذَلِكَ قَرِينَةً، فَكَيْفَ لَا يُسْتَعْمَلُ الْعُتَقَاءُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ لِلْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي سَبَقَ تَقْرِيرُهَا، فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ سَاغَ لِهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَعْلَمُوا اللَّفْظَ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ بِلَا قَرِينَةٍ سِيَّمَا مَعَ تَصْرِيحِ رَئِيسِهِمْ التَّاجِ الْفَزَارِيّ بِالتَّغْلِيبِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلتَّجَوُّزِ قُلْت: الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ اكْتَفَوْا بِوُضُوحِ الْقَرِينَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ لَفْظِ الْوَاقِفِ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ أَوَّلًا بِأَوْلَادِهِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَبِأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ انْتَقَلَ لِوَلَدِهِ مَا كَانَ لَهُ كَمَا يُعْرَفُ بِمُرَاجَعَةِ كَلَامِ التَّوَسُّطِ وَجَامِعِ فَتَاوَى التَّاجِ الْفَزَارِيّ وَأَئِمَّةِ عَصْرِهِ لِبَعْضِ تَلَامِذَتِهِ، وَمِنْهُ نَقَلَ الْأَذْرَعِيُّ فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّك تَجِدُهُ نَصًّا فِي شُمُولِ الْعُتَقَاءِ لِفُرُوعِهِمْ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ أَخَذُوا مِنْ قَوْلِ الْوَاقِفِ أَوَّلًا أَنَّ مَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ يَكُونُ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْأَبِ الْمَذْكُورِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَشْمَلُ الْأُمَّ تَغْلِيبًا، فَاكْتَفَوْا بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ الْوَاحِدَةِ فِي ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَقِيَاسُهُ أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي شُمُولِ الْعُتَقَاءِ لِفُرُوعِهِمْ بِمِثْلِ تِلْكَ الْقَرِينَةِ، وَقَدْ مَرَّ قَرِيبًا مِثْلُهَا مَعَ قَرَائِنَ أُخْرَى فَلْيَكُنْ الشُّمُولُ فِي مَسْأَلَتِنَا أَوْلَى، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الَّذِي أَفْتَى بِهِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ نَصٌّ قَاطِعٌ لِلنِّزَاعِ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَلَا يَسُوغُ لِأَحَدٍ الْعُدُولُ عَنْهُ.
الْأَمْرُ الثَّامِنُ: قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي أَثْنَاءِ جَوَابٍ طَوِيلٍ: ثُمَّ إنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَذْكُورِينَ عَلَى رُجْحَانِ هَذَا الْمَحْمَلِ عَلَى مَا يُعَارِضُهُ، بَلْ يَثْبُتُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا مُتَسَاوِيًا فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرُهُ لَفْظَ النَّسْلِ وَالْعَقِبِ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَقْيِيدُهُ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِمُحْتَمِلٍ لِذَلِكَ، انْتَهَى الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ السُّبْكِيّ فِي فَتَاوِيهِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي صُورَةٍ وُجُوهًا لِلِاسْتِحْقَاقِ وَوُجُوهًا لِعَدَمِهِ وَبَيَّنَهَا ثُمَّ قَالَ: الِاسْتِحْقَاقُ مُحَقَّقٌ وَالْحَجْبُ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَيُتْرَكُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ وَيُعْمَلُ بِالْمُحَقَّقِ فَيُقْضَى لَهُنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْأَصْلُ قَبْلَ الْوَقْفِ عَدَمُ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يُحْكَمُ بِهِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ اهـ.
وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ النَّقْلَيْنِ لِهَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ نَصٌّ فِي مَسْأَلَتِنَا أَيْضًا بِاسْتِحْقَاقِ أَوْلَادِ الْعُتَقَاءِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ وَهَكَذَا، وَبَيَانُهُ أَنَّا تَيَقَّنَّا اسْتِحْقَاقَ فُرُوعِ الْعُتَقَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute