النَّسَبِ هُوَ مُعْتِقُهُ ثُمَّ عَصَبَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَمَسَّهُ رِقٌّ، وَإِنَّمَا مَسَّ أَحَدَ آبَائِهِ فَالْعَصَبَةُ الْوَارِثُ لَهُ هُوَ مُعْتِقُ ذَلِكَ الْأَصْلِ الَّذِي انْجَرَّ الْوَلَاءُ مِنْهُ إلَى ذَلِكَ الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَلَى الْأَصْلِ نِعْمَةٌ عَلَى الْفَرْعِ فَمَنْ أُمُّهُ حُرَّةٌ أَصْلِيَّةٌ وَأَبُوهُ عَتِيقٌ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِمَوَالِي أَبِيهِ؛ لِأَنَّ الِانْتِسَابَ إلَى الْأَبِ وَهُوَ حُرٌّ مُسْتَقِلٌّ لِأَوْلَادٍ عَلَيْهِ فَلْيَكُنْ الْوَلَدُ مِثْلَهُ اهـ.
فَهَذَا يُظْهِرُ مَعْنَى قَوْلِ الْمُجِيبِ الْأَوَّلِ: إنَّ إزَالَةَ الرِّقِّ عَنْ الْأَصْلِ إزَالَةٌ لَهُ عَنْ الْفَرْعِ فَأَرَادَ بِإِزَالَةِ الرِّقِّ إزَالَةَ آثَارِهِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْإِزَالَةَ تَسْتَلْزِمُ الْإِنْعَامَ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، أَمَّا الْأَصْلُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ بَاشَرَتْهُ حَقِيقَةً، وَأَمَّا الْفَرْعُ؛ فَلِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ زَوَالُ الْعَارِ عَنْهُ بِرِقِّ أَصْلِهِ وَمُكَافَأَتِهِ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي تُسَاوِيهِ فِي حُرِّيَّةِ الْأُصُولِ، إذْ لَوْ بَقِيَ أَصْلُهُ رَقِيقًا لَمْ يَكُنْ كُفُؤًا لِمَنْ أَصْلُهَا عَتِيقٌ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَصْلَانِ عَتِيقَانِ لَمْ يَكُنْ كُفُؤًا لِمَنْ لَهَا ثَلَاثَةُ أُصُولٍ عُتَقَاءُ.
وَكَذَا فِي تَحَمُّلِ الدِّيَةِ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ لَوْ اسْتَمَرَّ رَقِيقًا لَمْ يَتَحَمَّلْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ أَقْرِبَائِهِ عَنْهُ لَوْ جَنَى، فَلَمَّا عَتَقَ أَصْلُهُ صَارَ مُعْتِقَ أَصْلِهِ يَتَحَمَّلُ عَنْ ذَلِكَ الْفَرْعِ لَوْ جَنَى، وَلَا مُوجِبَ لِهَذَا التَّحَمُّلِ عَنْهُ إلَّا نِعْمَتُهُ الصَّادِرَةُ مِنْهُ عَلَى أَصْلِهِ السَّارِيَةُ مِنْ أَصْلِهِ إلَيْهِ الْمُقْتَضِيَةُ لِكَوْنِهِ صَارَ كَقَرِيبِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ جَلْدَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» فَظَهَرَ أَنَّ الْفَرْعَ اكْتَسَبَ شَرَفًا وَفَوَائِدَ مِنْ جِهَاتٍ عَدِيدَةٍ بِسَبَبِ عِتْقِ أَصْلِهِ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ الْعِتْقَ سَرَى إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ وُصُولِ آثَارِهِ إلَيْهِ وَحِينَئِذٍ فَتَسْمِيَةُ الْفَرْعِ عَتِيقًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مَجَازٌ وَاضِحٌ لِلْعَلَاقَةِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي أَشَرْت إلَيْهَا، وَقَوْلُهُ عَلَى أَنَّ الْفَرْعَ إذَا وُجِدَ حُرًّا إلَخْ جَوَابُهُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ حُرًّا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ أَبِيهِ حَصَلَ لَهُ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ مِنْ جِهَةِ حُرِّيَّةِ أَبِيهِ أَوْجَبَتْ لَهُ أَنْ تَكُونَ النِّعْمَةُ عَلَى أَبِيهِ نِعْمَةً عَلَيْهِ، فَتَفَطَّنْ لِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: فَلَيْسَ مُطْلَقًا بَلْ مُغَيًّا إلَى غَايَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهَا، وَهِيَ بُلُوغُ عَدَدِ الْعُتَقَاءِ خَمْسِينَ، جَوَابُهُ: أَنَّ الْمُجِيبِينَ الْأَوَّلِينَ لَا يُخَالِفُونَ فِي هَذِهِ الْغَايَةِ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْهُمْ: بِإِلْغَائِهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْمُرَادِ بِلَفْظِ الْعُتَقَاءِ فِيهَا فَهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّهُ يَشْمَلُ مَجَازَهُ كَحَقِيقَتِهِ لِلْقَرِينَةِ، بَلْ وَالْقَرَائِنِ الَّتِي قَدَّمْت إيضَاحَهَا، وَمُخَالِفُوهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَقِيقَتُهُ فَقَطْ إلْغَاءً لِتِلْكَ الْقَرِينَةِ أَوْ الْقَرَائِنِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْوَ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا هُوَ مَنْشَأُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مَعَ اتِّفَاقِ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْغَايَةَ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهَا، لَكِنْ الْأَوَّلُونَ يَعْتَبِرُونَ فِيهَا الْفُرُوعَ أَيْضًا، وَالْآخَرُونَ يَعْتَبِرُونَ فِيهَا الْأُصُولَ فَقَطْ.
وَقَوْلُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْوَلَدِ لِنَصِيبِ الْأَبِ يَجْعَلُ الْأَبَ فِي حُكْمِ الْمَوْجُودِ إلَخْ جَوَابُهُ: أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْجَعْلَ لَمْ يُرِدْ بِهِ إلَّا مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُجِيبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي قَرَّرْته وَوَضَّحْته فِيمَا بَسَطْته سَابِقًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاقِفَ لَمَّا نَصَّ عَلَى أَنَّ الْفُرُوعَ يَسْتَحِقُّونَ مَا كَانَ لِأُصُولِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي فِي سَائِرِ طَبَقَاتِ الْفُرُوعِ، كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: أَوْ أَسْفَلُ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَيَسْتَمِرُّ الْحَالُ فِي ذَلِكَ كَذَلِكَ إلَى أَنْ يَبْقَى مِنْ الْعُتَقَاءِ الْمَذْكُورِينَ خَمْسُونَ، كَانَ هَذَا النَّصُّ الَّذِي ذَكَرَهُ قَرِينَةً أَيَّ قَرِينَةٍ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْعُتَقَاءِ فِي الْغَايَةِ جَمِيعَ مَنْ نَصَّ عَلَيْهِمْ فِيمَا قَبْلَ الْغَايَةِ، وَهُمْ الْعُتَقَاءُ وَفُرُوعُهُمْ إعْمَالًا لِلَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ لِوُجُودِ الْعَلَاقَةِ، وَهِيَ مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ النِّعْمَةَ عَلَى الْأَصْلِ نِعْمَةٌ عَلَى الْفَرْعِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ وَلِوُجُودِ الْقَرِينَةِ وَهِيَ نَصُّهُ عَلَى قِيَامِ الْفُرُوعِ مَقَامَ أَبِيهِمْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ الْمُوجِبِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا فِيهِمْ، وَشَكَكْنَا فِي ارْتِفَاعِهِ عَنْهُمْ بِإِرَادَةِ الْعُتَقَاءِ حَقِيقَةً فِي الْغَايَةِ فَلَزِمَنَا الْعَمَلُ بِالْيَقِينِ وَطَرْحُ الشَّكِّ، كَمَا مَرَّ التَّصْرِيحُ بِهِ عَنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَرَّ عَنْ الْبُلْقِينِيُّ فِي عَيْنِ مَسْأَلَتِنَا التَّصْرِيحُ بِشُمُولِ الْعُتَقَاءِ لِفُرُوعِهِمْ، وَكَفَى بِذَلِكَ حُجَّةً فِي تَأْيِيدِ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ وَقَوْلُهُ: عَلَى أَنَّهُ إذَا قُلْتُمْ إلَخْ جَوَابُهُ: أَنَّ الْمُجِيبَ الثَّالِثَ قَدْ نَظَرَ لِذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلَيْنِ كَمَا قَدَّمْت الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ مَبْسُوطًا عِنْدَ بَيَانِ مَا فِي الْجَوَابِ الثَّالِثِ، وَأَنَّ الْحَقَّ مَا أَفَادَهُ الْجَوَابَانِ الْأَوَّلَانِ لَا مَا ذَكَرَهُ الثَّالِثُ، وَقَوْلُهُ: يَلْزَمُ أَنْ يَقُولُوا بِقَسْمِ الرَّيْعِ إلَخْ جَوَابُهُ: أَنِّي قَدَّمْت أَنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ الْخَمْسِينَ لَوْ كَانُوا أَوْلَادَ عَتِيقٍ وَاحِدٍ مَنَعُوا قِسْمَةَ الرَّيْعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute