أَيْضًا أَنَّ السَّيِّدَ السَّمْهُودِيَّ لَمَّا كَانَ يَعْتَمِدُ تَفْصِيلَ أَبِي زُرْعَةَ خَالَفَ عُلَمَاءَ مِصْرَ، وَرَجَّحَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: إنَّ لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ الْإِدْخَالِ وَيُبْطِلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ حُكْمُ الْحَنَفِيِّ فَنَتَجَ أَنَّ غَالِبَ عُلَمَاءِ مِصْرَ الَّذِينَ فِي زَمَنِ السَّيِّدِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ تَلَامِذَةُ أَبِي زُرْعَةَ أَوْ تَلَامِذَةُ تَلَامِذَتِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا بِمَا قَالَهُ مِنْ التَّفْصِيلِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: بِأَنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْحَادِثَ الْمُتَجَدِّدَ وَحَتَّى لَا يَتَعَرَّضَ لَهُ مُخَالِفٌ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي يُتَّجَهُ اعْتِمَادُهُ وَبِهِ يَلْتَئِمُ أَطْرَافُ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ يَتَنَاوَلُ مَا دَخَلَ وَقْتُهُ وَمَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُ سَبَبِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِدْخَالِ، فَإِنَّ الْحَنَفِيَّ الْحَاكِمَ بِالْمُوجَبِ تَضَمَّنَ حُكْمُهُ الْإِذْنَ لِلْوَاقِفِ فِي الْإِدْخَالِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْإِدْخَالُ كَأَنَّهُ وُجِدَ لِوُجُودِ سَبَبِهِ مِنْ إذْنِ الْحَاكِمِ لَهُ فِيهِ أَوْ وَقْتِ مَا يَشْمَلُهُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِجَارَةِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهَا تَوَجَّهَ إلَى الدَّوَامِ الشَّامِلِ لِمَنْعِ الِانْفِسَاخِ بِالْمَوْتِ، فَفِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا يَتَنَاوَلُهَا الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ كَمَا يَتَنَاوَلُ مَا دَخَلَ وَقْتُهُ، بَلْ بَالَغَ بَعْضُ مُحَقِّقِي مَشَايِخِنَا وَقَالَ: الْمُوجَبُ مُفْرَدٌ مُضَافٌ وَهُوَ لِلْعُمُومِ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْآثَارِ الَّتِي دَخَلَ وَقْتُهَا وَاَلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهَا.
وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ السُّبْكِيّ التَّصْرِيحُ بِهِ وَمَعَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْعُمُومِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو زُرْعَةَ فِي مَسْأَلَةِ تَعْلِيقِ طَلَاقِ الْأَجْنَبِيَّةِ لَهُ وَجْهٌ وَحَاصِلُ كَلَامِهِ فِيهَا: أَنَّ مَنْ عَلَّقَ طَلَاقَ أَجْنَبِيَّةٍ عَلَى تَزْوِيجِهِ بِهَا فَحَكَمَ مَالِكِيٌّ أَوْ حَنَفِيٌّ بِمُوجَبِ ذَلِكَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَبَادَرَ شَافِعِيٌّ وَحَكَمَ بِاسْتِمْرَارِ الْعِصْمَةِ وَعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، نَفَذَ حُكْمُهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ لَوْ تَزَوَّجَهَا فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَقَعْ إلَى الْآنَ، فَكَيْفَ يُحْكَمُ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ؟ وَالْحُكْمُ إنَّمَا يَكُونُ فِي مُتَحَقِّقٍ فَمَا هَذَا مِنْهُ إلَّا فَتْوَى، وَتَسْمِيَتُهُ حُكْمًا جَهْلٌ أَوْ تَجَوُّزٌ يَعْنِي بِهِ أَنَّ هَذَا حُكْمُ الشَّرْعِ عِنْدَهُ لَا أَنَّهُ بَتَّهُ وَأَلْزَمَ بِهِ، وَكَيْفَ يُلْزِمُ بِمَا لَمْ يَقَعْ؟ وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْتِ بِصِيغَةِ عُمُومٍ وَهُوَ الْمُوجَبُ بَلْ حَكَمَ بِهَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ الْخَاصَّةِ فَقَالَ: حَكَمْتُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ إنْ تَزَوَّجَهَا لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا وَعُدَّ سَفَهًا وَجَهْلًا، وَكَيْفَ يَحْكُمُ الْإِنْسَانُ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ؟ فَيَقُولُ: حَكَمْتُ بِصِحَّةِ بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ لَوْ وَقَعَ بِشُرُوطِهِ وَبِصِحَّةِ نِكَاحِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ لَوْ وَقَعَ بِشُرُوطِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْحَنَفِيِّ فِي الْمُدَبَّرِ بَعْدَ تَدْبِيرِهِ: حَكَمْتُ بِمَنْعِ بَيْعِهِ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى مَذْهَبِهِ وَقَعَ فِي مَحَلِّهِ وَوَقْتِهِ فَنَفَذَ فَافْهَمْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُهِمٌّ حَسَنٌ وَوَقَعَ بِسَبَبِ عَدَمِ تَدَبُّرِهِ خَبْطٌ فِي الْأَحْكَامِ.
وَتَوْجِيهُ الْحَنَفِيِّ أَوْ الْمَالِكِيِّ حُكْمَهُ إلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الَّتِي يَتَزَوَّجُ بِهَا، وَحُكْمُهُ بِمَنْعِ التَّزْوِيجِ بِهَا أَفْسَدُ مِنْهُ، فَإِنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ بِلَا تَوَقُّفٍ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ صُدُورِ النِّكَاحِ، وَلَا يَدْرِي، هَلْ يَقَعُ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ أَمْ لَا؟ فَلَا يُمْكِنُ تَوْجِيهُ الْحُكْمِ إلَى مَنْعِ النِّكَاحِ كَمَا وَجَّهَ الْحَنَفِيُّ حُكْمَهُ إلَى مَنْعِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، وَلَا إلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي عِصْمَةٍ لَا يَدْرِي، هَلْ تَقَعُ فِي نَفْسِ الْوُجُودِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ نَفْسَ الطَّلَاقِ لَمْ يَقَعْ قَبْلَ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا وَقَعَ تَعْلِيقُهُ، وَالتَّعْلِيقُ غَيْرُ مُوقِعٍ فِي الْحَالِ، فَكَيْفَ يُحْكَمُ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُوجَدْ بِشَيْءٍ لَمْ يَقَعْ، هَذَا وَاضِحٌ لِصَاحِبِ الْأَلْمَعِيَّةِ الْخَالِي عَنْ الْعَصَبِيَّةِ اهـ.
وَلِمَا ذَكَرَهُ فِي خُصُوصِ هَذَا الْمِثَالِ وَجْهٌ كَمَا مَرَّ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِطْلَاقُهُ إلْغَاءَ هَذَا الْحُكْمِ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ يَتَعَيَّنُ فِي هَذَا الْمِثَالِ وَأَشْبَاهِهِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَعْنَى الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ يَقُولُ فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ: لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ وَقْتِ الْمَحْكُومِ بِهِ فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الْوَلِيُّ، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ مَا قَالَهُ الْوَلِيُّ مِنْ بُطْلَانِ حُكْمِ الْمُخَالِفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَالْحَقُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَأَشْبَاهِهَا إنَاطَةُ الْحُكْمِ فِيهَا بِمَذْهَبِ الْحَاكِمِ فَحَيْثُ كَانَ الْحُكْمُ بِمُوجَبِ التَّعْلِيقِ قَبْلَ الْمِلْكِ صَحِيحًا فِي مَذْهَبِهِ، لَزِمَ كُلَّ أَحَدٍ تَنْفِيذُ حُكْمِهِ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْ مُخَالِفٍ أَنْ يَقُولَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ رَأْيِهِ، بَلْ وَلَا مِنْ قِبَلِ رَأْيِ مُقَلَّدِهِ بِأَنَّهُ فَاسِدٌ وَلَا أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِفْتَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ اجْتِهَادِهِ أَوْ اجْتِهَادِ مُقَلَّدِهِ، وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُخَالِفِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ بِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ حَيْثُ وَقَعَ صَحِيحًا عَلَى مَذْهَبِهِ وَلَمْ يُخَالِفْ نَصًّا صَرِيحًا وَلَا إجْمَاعًا وَلَا قِيَاسًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute