قُلْت: صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ دَخَلَ فِيهِمْ مَنْ يَحْدُثُ لَهُ مِنْ الْأَوْلَادِ قُلْت: الْفَرْقُ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ وَنَحْوِهِمْ وَقْفٌ عَلَى جِهَةٍ فَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهَا لِلْأَفْرَادِ، فَدَخَلَ غَيْرُ الْمَوْجُودِ تَبَعًا لَهُ وَهُنَا النَّظَرُ إلَى صِدْقِ هَذَا اللَّفْظِ حَالَ الْوَقْفِيَّةِ، فَمَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ اسْتَحَقَّ وَمَنْ لَا فَلَا.
وَسَيَأْتِي مَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ مِنْ أَنَّ لَفْظَ الْمَوْلَى مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ وَلَفْظَ الْأَوْلَادِ مِنْ بَابِ الْمُتَوَاطِئِ وَمَسْأَلَتُنَا كَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ لَا الْمُتَوَاطِئِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ أَنَّ كُلًّا لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْقَبُولِ، أَمَّا الْوَصِيَّةُ وَالصَّدَقَةُ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا الْوَقْفُ فَعَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ اضْطِرَابٍ طَوِيلٍ إنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا لَا جِهَةً، وَكَمَا أَنَّ الصَّدَقَةَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الْقَبْضِ كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ مُتَوَقِّفَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى الْقَبُولِ وَلَمْ يَنْظُرُوا لِوُجُودِهِ حَالَ الْمَوْتِ، بَلْ نَظَرُوا لِوُجُودِهِ حَالَ الْوَصِيَّةِ فَكَذَا يُنْظَرُ هُنَا لِلْوَصْفِ حَالَ قَوْلِهِ أَعْطُوا.
فَإِنْ قُلْت: إنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ إنْ لَوْ كَانَ الْمَوْلَى حَالَ الْوَصِيَّةِ يَدْخُلُ وَإِنْ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَوْلًى حَالَ الْمَوْتِ كَانَ كَافِرًا فَحَارَبَ وَاسْتُرِقَّ قُلْت: ذَاكَ مُتَعَدٍّ فَلَا يُنَاسِبُهُ الْإِعْطَاءُ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ الْوَصْفَ الْمُقْتَضِيَ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَلَا كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا، ثُمَّ رَأَيْت الْمُحَقِّقَ أَبَا زُرْعَةَ قَالَ فِي بَابِ الْهِبَةِ مَعَ بَابِ الْوَصِيَّةِ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ: وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ تَمْلِيكًا مُنَجَّزًا وَالْآخَرُ مُعَلَّقًا عَلَى الْمَوْتِ، لَكِنْ جَمَعَهُمَا الْمَوْتُ وَالشَّيْخَ الْإِمَامَ أَبَا حَسَنٍ السُّبْكِيّ أَشَارَ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْأَذْرَعِيُّ.
وَأَقَرَّهُ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي قَبُولِ الْوَقْفِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي قَبُولِ الصَّدَقَةِ النَّاجِزَةِ، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ بَابَ الْوَصِيَّة وَالْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمُدَّعَى وَمِمَّا قَدْ يَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ الْبَغَوِيِّ لَوْ أَوْصَى لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ صُرِفَ إلَى مَنْ دَخَلَ فِي طَلَبِهِ يَوْمئِذٍ اهـ. فَاعْتُبِرَ يَوْمُ الْوَصِيَّةِ مَعَ أَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْمَوْتِ بِشَرْطِ الْقَبُولِ، وَمِمَّا يَدُلُّ لَهُ دَلَالَةً قَوِيَّة قَوْلُهُمْ لَوْ مَاتَ الْمُجَاهِدُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَقَبْلَ حِيَازَة الْمَالِ أُسْهِمَ لَهُ، وَثَبَتَ لِلْوَرَثَةِ حَقُّ الْمِلْك أَوْ التَّمْلِيكِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ نِزَاعٍ مَعَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ إنَّمَا تُمَلَّكُ بِالْحِيَازَةِ أَوْ اخْتِيَارِ التَّمْلِيكَ، فَنَظَرُوا لِجَرَيَانِ سَبَبِ الْمِلْك فِي حَيَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجِدْ الْمِلْكُ نَفْسُهُ فِيهَا، وَلَمْ يَنْظُرُوا لِمَوْتِهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمِلْكِ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ، فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا جَرَى سَبَبُ الْمِلْكِ فِي حَالِ وِلَايَتِهِ فَلْيَسْتَحِقَّ إذْ طُرُوُّ عَزْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَطُرُوِّ مَوْتِ الْمُجَاهِدِ.
فَإِنْ قُلْت: أَيُّ جَامِعٍ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ؟ قُلْت: الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ وَهُوَ أَنَّ الِاتِّصَافِ بِكُلٍّ مِنْ الصِّفَتَيْنِ أَعْنِي الْقَضَاءَ وَحُضُورَ الْوَقْعَةِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ مُقْتَضٍ لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَقَدْ أَعْطَوْا الْمُتَّصِفَ بِحُضُورِ الْوَقْعَةِ مَعَ زَوَالِ أَهْلِيَّتِهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ يُعْطَى هُنَا الْمُتَّصِفُ بِالْقَضَاءِ مَعَ زَوَالِ صِفَتِهِ وَبَقَاءِ أَهْلِيَّتِهِ بِالْمُسَاوَاةِ، بَلْ بِالْأَوْلَى وَمِمَّا يَشْهَدُ لِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُمْ: لَوْ أَوْصَى لِحُرٍّ فَرُقَّ لَمْ تَكُنْ الْوَصِيَّةُ لِسَيِّدِهِ بِحَالٍ، بَلْ مَتَى عَتَقَ فَهِيَ لَهُ فَإِنْ مَاتَ رَقِيقًا بَعْدَ مَوْتِ الْوَصِيِّ كَانَ الْمُوصَى بِهِ فِي أَعْلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرُوهُ فِي مَالِ مَنْ اُسْتُرِقَّ بَعْدَ نَقْضِ أَمَانِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُبْطِلُوا الْوَصِيَّةَ لَهُ بِطُرُقِ رِقِّهِ، بَلْ نَظَرُوا لِاتِّصَافِهِ بِالْحُرِّيَّةِ الْمُقْتَضِي لِاسْتِحْقَاقِهِ حَالَ الْوَصِيَّةِ، وَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى أَنَّ طُرُوَّ الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ وَهُوَ الرِّقُّ، بَلْ أَوْقَفُوا الْأَمْرَ إلَى تَأَهُّلِهِ لِلْإِعْطَاءِ، فَإِنْ تَأَهَّلَ لَهُ بِأَنْ عَتَقَ أُعْطِيَ وَإِلَّا كَانَ فَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إعْطَاؤُهُ لِمُسْتَحِقِّهِ لِاتِّصَافِهِ بِالرِّقِّ الْمَانِع مِنْ ذَلِكَ إلَى الْمَوْتِ.
وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْوَصْفُ وَإِنْ زَالَ الْمَوْصُوفُ بِهِ مُتَأَهِّلٌ لِلْإِعْطَاءِ فَلْيُعْطَ عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرُوهُ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَمْ تَبْطُلْ الْوَصِيَّةُ بِطُرُوِّ الرِّقِّ كَذَلِكَ لَا يَبْطُلُ هُنَا الِاسْتِحْقَاقُ بِطُرُوِّ الْعَزْلِ وَعَدَمِ إعْطَاءِ الْمُوصَى لَهُ لِمَانِعٍ قَامَ بِهِ خَلَّى عَنْهُ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَتِنَا، وَلِبَاحِثٍ أَنْ يَبْحَثَ وَيَأْخُذَ مِنْ هَذَا الْفَرْعِ أَنَّ الْمَالَ الْمُعَيَّنَ هُنَا لِلْقَاضِي يُوقَفُ فَإِنْ اتَّصَفَ الْمَعْزُولُ بِالصِّفَةِ بِأَنْ وُلِّيَ أَخَذَهُ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ اتِّصَافِهِ بِهَا كَانَ فَيْئًا وَيُجَابُ: بِأَنَّ سَبَبَ الْوَقْفِ ثَمَّ قِيَامُ مَانِعٍ بِالْمُوصَى إلَيْهِ لَا يُمْكِنُ الْإِعْطَاءُ مَعَهُ.
وَهُنَا لَا مَانِعَ فَيُمْكِنُ الْإِعْطَاءُ وَإِنَّمَا كَانَ فَيْئًا ثَمَّ لِأَنَّهُ ذِمِّيٌّ مَاتَ لَا عَنْ وَارِثٍ وَلَهُ مَالٌ اسْتَحَقَّهُ قَبْلَ الرِّقِّ، وَمِمَّا يَشْهَدُ لِذَلِكَ أَيْضًا إفْتَاءُ ابْنِ الصَّلَاحِ وَنَقَلُوهُ عَنْهُ وَأَقَرُّوهُ فِي مَوْقُوفٍ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُقِيمِينَ بِدِمَشْقَ مِنْ أَهْلِهَا وَالْوَارِدِينَ مِنْ الشَّامِ إلَيْهَا دُونَ غَيْرِهِمْ، فَتَأَخُّرٌ مِنْهُ حَاصِلٌ وَتَأَخَّرَتْ قِسْمَتُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute