وفي عُنقِه سَطَعٌ، وفي لحيتِهِ كثاثةٌ، أَزجُّ أَقرنُ، إنْ صَمَتَ فعليه الوقَارُ، وإنْ تكلَّمَ سمَا وعلاهُ البَهاءُ، أجمَلُ الناسِ وأَبْهاهُ مِن بعيدٍ، وأحسنُهُ وأَحلاهُ مِن قريبٍ، حلوُ المنطقِ، فَصْلٌ لا نَزْرٌ ولا هذرٌ، كأنَّ مَنطِقَهُ خَرزاتُ نَظْمٍ يَتحدَّرْنَ، لا يأسَ مِن طُولٍ، ولا تَقْتَحمُهُ عينٌ مِن قِصَرٍ، غُصنٌ بين غُصنينِ فهو أنضرُ الثلاثِة مَنظراً، وأَحسنُهم قَدراً، له رفقاءُ يَحُفُّونَ بِه، إنْ قالَ أَنصَتُوا لقولِهِ، وإنْ أَمَرَ تَبادَروا إلى أمرِهِ، محفودٌ محشودٌ، لا عابسٌ ولا مُفَنِّدٌ.
قالَ أبومَعبدٍ: فَهذا واللهِ صاحبُ قُريشٍ الذي ذُكَرَ لنا مِن أمرِهِ ما ذُكَرَ بمكةَ، ولقدْ هَممتُ أَنْ أصحَبَهُ، ولأَفعلَنَّ إنْ وَجدتُ إلى ذلكَ سبيلاً.
وأصبَحَ صوتٌ بمكةَ عالٍ يَسمعونَ الصوتَ ولا يَدرونَ مَن صاحبُهُ وهو يقولُ:
جَزَى اللهُ ربُّ الناسِ خيرَ جزائِهِ ... رَفيقينَ قَالا خَيْمَتي أمِّ مَعْبَدِ
هما نَزَلاها بالهُدى واهتَدا بِه ... فقدْ فازَ مَن أَمْسى رفيقَ مُحمدِ
فيا لِقُصَيٍّ ما زَوى اللهُ عنكُمُ ... بِه مِن فَعَالٍ لا يُجازى وسُؤددِ
لِيَهْن بني كعبٍ مكانُ فَتاتِهم ... ومقعدُها للمؤمنينَ بمرصَدِ
سلُوا أُختَكم عن شاتِها وإنائِها ... فإنَّكمُ إنْ تسأَلوا الشاةَ تَشهدِ
دَعاها بشاةٍ حائلٍ فتحَلَّبَتْ ... عليهِ صريحاً ضَرَّةُ الشاةِ مُزبدِ
فغادَرَها رَهناً لديها لحالبٍ ... يُرددُها في مصدرٍ ثم مورَدِ
فلمَّا سمعَ بذلكَ حسانُ الأَنصاريُّ شَبَّبَ يُجاوبُ الهاتِفَ فقالَ:
لقدْ خابَ قومٌ زالَ عنهم نبيُّهم ... وقُدِّسَ مَن يَسري إليه ويَغتدي
تَرحَّلَ عن قومٍ فَضَلَّتْ عقولُهم ... وحلَّ على قومٍ بنورٍ مُجددِ
هَداهُم بِه بعدَ الضلالةِ ربُّهم ... وأَرشدَهم مَن يتَّبع الحقَّ يَرشُدِ
وهلْ يَستوي ضلالُ قومٍ تَسَفَّهوا ... عَمَايَتَهم هادٍ به كلُّ مُهتدي