للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال النووي في "شرح مسلم " بعد أن ترجم له: «وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَلاَلَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَكِبَرِ مَحَلِّهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ» (١) اهـ.

فرجل يجمع نُقَّادُ الحديث وأئمة الجرح والتعديل على تَثَبُّتِهِ وجودة حديثه وقلة سقطه، يكون من المحزن أن يجيء في آخر الزمان من يقول عنه: «إن الناس كانوا يأخذون عنه، مخدوعين بصدقه».

وشيء آخر، وهو أن إقرارهم له بالإمامة وعلو المرتبة والمكانة في علم الحديث - كما رأيت - يُكَذِّبُ ما يلصقه به مؤلف " فجر الإسلام " من أنه كان يُحَدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ. فقد ذكر مسلم بسنده إلى الإمام مالك - رَحِمَهُ اللهُ - قال: «اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ، وَلاَ يَكُونُ إِمَامًا أَبَدًا وَهُوَ يُحَدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ»، وَذُكِرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ قَوْلَهُ: «لاَ يَكُونُ الرَّجُلُ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ حَتَّى يُمْسِكَ عَنْ بَعْضِ مَا سَمِعَ» إلى ما هنالك من أقوال تدل على أن علماء هذا الشأن لا يُقِرُّونَ بالإمامة لرجل إلا إذا كان مُتَثَبِّتًا مِمَّا يحفظ، متأملاً فيما يروي، لا يُحَدِّث بكل ما سمع.

٣ - وأما العبارة التي نقلها عن " صحيح مسلم " في حق عبد الله بن المبارك فها هنا لا يكاد المرء ينتهي عجباً من صنيع المؤلف. إن عبارة الإمام مسلم في "الصحيح " هكذا: «حَدَّثَنِي ابْنُ قُهْزَاذَ، قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبًا (*)، يَقُولُ: عَنْ سُفْيَانَ (**)، عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: «بَقِيَّةُ صَدُوقُ اللِّسَانِ، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ عَمَّنْ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ» وأنت لا تشك حين تقرأ هذا أن القول هو قَوْلُ عبد الله بن المبارك في " بقية " وهو أحد المُحَدِّثِينَ في عصره، ولكن المؤلف فهم هذا النص على أنه قَوْلٌ فِي عَبْدِ اللهِ بن المبارك، وأنه هو الموصوف بهذه الأوصاف، مع أن سياق السند كان يفسد عليه هذا الفهم، فإن السند هكذا: عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ، أي ابن المبارك، فهو القائل وَالمُتَحَدِّثِ لاَ المُتَحَدَّثِ عَنْهُ. ثم إن اللفظ " بقية " لا " ثقة " فابن المبارك يتكلم عن بقية بن الوليد المُحَدِّثَ


(١) وقد أفرد له ابن أبي حاتم [المُتَوَفَّى ٣٢٧] في تقدمة " الجرح والتعديل " ترجمة حافلة بثناء العلماء وما كان عليه - رَحِمَهُ اللهُ - من علم بالرُوَاة ونقد لهم (التقدمة: ٢٦٢ - ٢٨٠).