والمؤلف مخطئ في هذه الأمور الثلاثة خطأ تعلم مأتاه فيما بعد.
أما أولاً - فَالحَنَفِيَّةُ لم يقولوا بتقديم القياس على الحديث، بل الإمام وصاحباه وجمهرة أتباعه على أن الخبر مُقَدَّمٌ على القياس مُطْلَقاً، فقيهاً كان الراوي أم لا، وهو مذهب الشافعي وأحمد وجمهور أهل الأصول، وذهب فخر الإسلام واختاره ابن أبان وأبو زيد وهم من الحَنَفِيَّةِ، إلى أن الراوي إذا كان فقيهاً قُدِّمَ خَبَرُهُ على القياس مُطْلَقاً. وإن كان غير فقيه قُدِّمَ خَبَرُهُ على القياس أيضاًً إلا إذا خالف جميع الأقيسة وَانْسَدَّ باب الرأي بالكلية، ومثلوا لذلك بحديث المُصَرَّاةِ وذهب الكَمَالُ بْنُ الهُمَامِ إلى ما اختاره ابن الحاجب والآمدي: من أنه إذا كان ثبوت العلة في القياس راجحاً على الخبر، وكان وجودها في الفرع كوجودها في الأصل، فالقياس مقدم، وإن تساوى ثبوت العلة في الأصل والفرع وثبوت الخبر، فالتوقف، وإلا فيقدم الخبر.
هذا تفصيل أقوال العلماء في تعارض الخبر والقياس، ومنه يعلم أن جمهور الحَنَفِيَّةِ وعلى رأسهم الإمام وصاحباه يقولون بتقديم الخبر على القياس مطلقاً سواء كان الراوي فقيهاً أم لا، فما نسبه المؤلف إليهم غير صحيح قطعاً، بل قول من ذكرنا سابقاً. ولا حاجة بي إلى أن أنقل أقوال علماء الأصول فهي مبسوطة في مراجعها، وسيأتي في ترجمة أبي حنيفة ما يزيدك اطمئناناً.
وأما ثانياً - فهذا الموقف من تقديم القياس على الخبر ليس خَاصًّاً بأبي هريرة عند القائلين به، بل هم يُعَمِّمُونَهُ في كل رَاوٍ غير فقيه، وإليك عبارة " مسلَّم الثبوت " و" شرحه ":