وإذاً فتخصيص أبي هريرة بهذا الحكم كما يفيده ظاهر كلام المؤلف غير صحيح.
وأما ثالثاً - فما نقله عن الحَنَفِيَّةِ من قولهم بعدم فقاهة أبي هريرة غير صحيح أيضاًً، إذ لم يقل بذلك منهم إلا فخر الإسلام وصاحباه، وجمهور الحَنَفِيَّةِ على خلافهم، والتشنيع على مقالتهم تلك، قال الكَمَالُ بْنُ الهُمَامِ بعد ذكر قولهم السابق نقله عن " مسلَّم الثبوت ": «وَأَبُو هُرَيْرَةَ فَقِيهٌ»، قال شارحه ابن أمير الحاج:«لَمْ يَعْدَمْ شَيْئًا مِنْ أَسْبَابِ الاجْتِهَادِ، وَقَدْ أَفْتَى فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ يُفْتِي فِي زَمَنِهِمْ إلاَّ مُجْتَهِدٌ وَرَوَى عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ مَا بَيْنَ صَحَابِيٍّ وَتَابِعِيٍّ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَأَنَسٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ»(١).
نعم إن الحَنَفِيَّةَ مع كونهم يُقََدِّمُونَ الخبر على القياس إذا تعارضا، فقد تركوا خبر أبي هريرة هنا، لا لخصوص أبي هريرة، ولا خروجاً عن قاعدتهم، بل بناء على قاعدة أخرى مُسَلَّمٌ بِهَا عِنْدَهُمْ، بل عند جميع العلماء وهي أن الخبر إذا عارض الكِتَابَ وَالسُنَّةُ وَالإِجْمَاعَ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ، والقاعدة في الترجيح عند تعارض الأدلة أن يصار إلى الأقوى، ولا شك أن ما دَلَّ عليه الكِتَابُ وَالسُنَّةُ بمجموعها والإجماع، أقوى مِمَّا دَلَّ عليه خبر الآحاد، وهذا الخبر قد عارض عندهم الكِتَابَ وَالسُنَّةُ وَالإِجْمَاعَ فلا يُعْمَلُ بِهِ، ثم سلكوا في الجواب عنه مسالك مختلفة أوصلها ابن حجر في " فتح الباري " إلى ستة أقوال: أقربها أنه منسوخ. وروي ذلك عن أبي حنيفة نفسه، وَأَيًّا ما كان فليس في مسلك الحَنَفِيَّةِ هنا ما يعود بالطعن على أبي هريرة، وهذا فخر الإسلام الذي قال بعدم فقاهة أبي هريرة، نَصَّ بصراحة على إجلاله وصدقه وأمانتة، ومعاذ الله أن يذهب أَحَدٌ من أهل العلم والخشية والورع إلى غير هذا.
لعلك علمت الحق في هذه المسائل الثلاث التي أخطأ فيها المؤلف خطأً كبيراً، أما كيف وقف هذا الموقف ومن أين أتى بكلامه السابق، فإليك ما يستدعي عجبك من أمانة العلم ودقة الفهم وصدق البحث.
(١) " التقرير ": ٢/ ٢٥١، انظر كذلك " التيسير ": ٣/ ٥٣.