للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أما الدنيا فقد خَلَّفَهَا وراءه منذ اعتزم أن لا يتاجر في المدينة ولا يزرع ولا يكون له هَمٌّ إلا ملازمة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتلقي حديثه وحمل أمانته للمسلمين من بعد.

وأما المال فإن أَبَا رَيَّةَ - على سفهه وشططه في فهم النصوص - لم يجرؤ أن يفتري على أبي هريرة أنه كان في إسلامه راغباً في المال.

وإنا لنجد في بعض ما ذكره ابن كثير في " تاريخه " عن أبي هريرة ما يرفع شأنه وَيُعْلِي مكانته في قلوب أهل الحق. فقد أخرج بسنده إلى سعيد بن هند عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أن النَّبِيّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «أَلاَ تَسْأَلُنِي مِنْ هَذِهِ الْغَنَائِمِ الَّتِي يَسْأَلُنِي أَصْحَابُكَ؟». قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَقُلْتُ: «أَسْأَلُكَ أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ» (١)، فهل بعد هذا أروع من هذا الإخلاص للحق والعلم؟

وذكر ابن كثير أيضاًً أن ابنة أبي هريرة قالت له يوماً: «يَا أَبَتِ إِنَّ البَنَاتَ يُعَيِّرْنَنِي، وَيَقُلْنَ لِي: لِمَ لاَ يُحَلِّيكِ أَبُوكِ بِالذَّهَبِ؟»، فَقَالَ: «يَا بَنَيَّةَ: قُولِي لَهُنََّّ: إِنَّ أَبِي يَخْشَى عَلَيَّ حَرَّ اللَّهَبِ» (٢).!

وأما الجاه فإن الرجل الذي رضي في سبيل الهجرة إلى رسول الله أن يخدم قافلة مسافرة في الطريق ويرضى أن يسكن في الصُفَّةِ مأوى الذين لا بَيْتَ لهم ولا سكن، وأن يتحمل مَرَارَةَ الجوع في سبيل العلم، وحمل أمانته هو رجل أبعد ما يكون عن طلب الجاه.

حتى إن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لما استعمل أبا هريرة على البحرين، ثم قدم ببعض المال فحاسبه عليه عمر، فلم يجد فى مكسبه مدخلاً لإثم، رفض أن يلي العمل مَرَّةً ثانية لعمر. وكان مِمَّا قاله: أخشى أن أقول بغير علم وأقضي بغير حلم (٣).

فهذا هو أبو هريرة في إسلامه وَصُحْبَتِهِ للنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف استجاز أَبُو رَيَّةَ أن يقلب الحقائق، ويمسخ التاريخ الناصع، ويفتري على الأبرياء وهو الذي قال: «لعنة الله على الكَاذِبِينَ متعمدين كانوا أم غير متعمدين»؟!


(١) و (٢) " البداية والنهاية ": ٨/ ١١١.
(٣) " البداية والنهاية ": ٨/ ١١٣.