للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكان يحمل حزمة الحطب على كتفه ويدخل السوق ويقول: «خَلُّوا الطَرِيقَ لِلأَمِيرِ»! .. فيا لروعة العظمة في تواضعها! .. ويا لغشاوة أبصار الحاقدين الذين لم يروها! ..

وكان يُدْعَى إلى الطعام فيقول: «إِنِّي صَائِمٌ»، فإذا بدأوا الأكل أكل معهم وهو يقول: «أَنَا صَائِمٌ فِي تَضْعِيفِ اللهِ، مُفْطِرٌ فِي تَخْفِيفِ اللهِ» ... يا ما أُحَيْلَى هذا المزاح، وهذه الدعابة، وهذه الشخصية السمحة الكريمة! ..

ويدعو بعض الناس إلى عشائه بالليل وهو أمير، ويقول له: «دَعْ العُرَاقَ لِلأَمِيرِ» (يوهمه أنه يقدم له لحماً) فينظر الضيف، فإذا هو ثريد بالزيت! ..

ويجيئه شاب فيقول له: إني أصبحت صائماً فدخلت على أبي فجاءني بخبز ولحم فاكلت ناسياً، فيجيبه أبو هريرة: «أطعمكها الله لا عليك»، فيقول الشاب متابعاً: ثم دخلت داراً لأهلي فجيء بلبن لقحةٍ فشربته ناسياً، فيقول له أبو هريرة: «لا عليك»، فيتابع الشاب: ثم نمت فاستيقظت فشربت ماءً وجامعت ناسياً .. فيقول له الشيخ المطبوع على المزاح المحبوب: «إنك يا ابن أخي لم تعتد الصيام!».

أي إنسان في الدنيا يرى في هذا المزاح مهانة إلا أن يكون من الأفظاظ الثقلاء!! ..

هذا هو مزاح أبي هريرة الذي أجمع عليه المُؤَرِّخُونَ، كما قال أَبُو رَيَّةَ، ولكنه فاته شيء واحد خالفهم فيه جميعاً، وهو مع أنهم أجمعوا على مزاحه، أجمعوا أيضاًً على أنه مع مزاحه هذا كان - كما قال ابن كثير، - وهو الذي روى نكاته ومزاحه - «[وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،] مِنَ الصِّدْقِ وَالْحِفْظِ وَالدِّيَانَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ» (١) فلماذا خالف أَبُو رَيَّةَ إجماعهم هذا بعد أن حكى إجماعم على ذاك؟!

أيريد أن يدخل تحت قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (٢)؟!

وبعد فلقد أخرج البخاري في " الأدب المفرد " عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المُزَنِي


(١) " البداية والنهاية ": ٨/ ١١٠.
(٢) [سورة النساء، الآية: ١١٥].