ونحن نجزم قطعاً بأن هذه الرواية عن أبي حنيفة غير صحيحة، فالفقه الحنفي المأثور عن أبي حنيفة نفسه مليء بالأحكام التي لا مستند لها من الأحاديث، إلا أحاديث أبي هريرة، وأما نقله عن فقهاء الحَنَفِيَّةِ بأنهم يعتبرون أبا هريرة غير فقيه، فهذا نقل رجل لم يَشُمَّ رائحة العلم والفقه، وقد حَقَّقْنَا القول في رَدِّنَا على أحمد أمين أن فقهاء الحَنَفِيَّةِ متفقون على فقاهته إلا مثل عيسى بن أبان ومن وافقه (١).
٨ - وزعم أَبُو رَيَّةَ أن ما كان يفعله أبو هريرة - وكذلك كان يفعل غيره كأنس ومعاذ وعبد الله بن عمر - من روايتهم عن أكابر الصحابة ثم إسناد هذه الرواية إلى النَّبِيّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن هذا تدليس من أبي هريرة ثم ساق أقوال علماء الحديث في التدليس والمُدَلِّسِينَ.
وهذا لممري تدليس - بالمعنى اللغوي - قبيح من أَبِي رَيَّةَ!
إن رواية الصحابي عن الصحابي وإسناده إلى النَّبِيّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تسمى «تدليساً» وإنما تسمى «إِرْسَالاً» وبإجماع علماء الحديث إن مُرْسَلَ الصحابي مقبول لأن الصحابي لا يروي عن صحابي، والصحابة كلهم عدول، واحتمال أن يروي الصحابي عن تابعي غير وارد ولامعقول، ولذلك قبلوا بالإجماع ما رواه الصحابي عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولو كان يرويه عن صحابي آخر.
فَادِّعَاءُ أَبَي رَيَّةَ أن هذا تدليس وَنَقْلِهِ ما قاله العلماء عن التدليس وَالمُدَلِّسِينَ إنما هو التدليس بمعناه الصحيح، ولئن كان التدليس في علم الحديث بمعناه المصطلح عليه عندهم لاَ يُسْقِطُ صاحبه عن رتبة العدالة ولا الثقة، وكان من المُدَلِّسِينَ كبار أئمة الحديث، فإن تدليس أَبِي رَيَّةَ يسقطه عن رتبة «العُلَمَاءِ المُحَقِّقِينَ» وينتزع الثقة بفهمه بعد انتزاع الثقة بأمانتة .. وهكذا يتهافت المُبْطِلُ ويكثر عثاره ..
وما نقله عن شُعْبَةَ نَصٌّ مُحَرَّفٌ في الطباعة ولا يمكن أن يكون أصله صحيحاً
(١) لشمس الأئمة السرخسي بحث واف في هذا الموضوع يَتَبَيَّنُ منه إجلال أئمة الحَنَفِيَّةِ لأبي هريرة واعترافهم به بالعدالة والضبط والحفظ.