فهاتان الحادثتان المنقولتان نقلاً موثوقاً عند أهل العلم تقطع أَلْسِنَةَ الذين يلوكون ألسنتهم بِاتِّهَامِ أبي هريرة منذ عهد النَظَّامِ حتى أَبِي رَيَّةَ ...
ثانياً - أنه استمر في تحديثه حتى تُوُفِّيَ سَنَةَ ٥٨ أو ٥٩ أو ٦٠ على اختلاف الروايات والصحابة متوافرون، والمُسْلِمُونَ أيقاظ، والدولة الإسلامية في قُوَّتِهَا وعظمتها، وعلماء المُسْلِمِينَ يَلْتَفُّونَ حول هذا الصحابي الجليل، يحسب كل واحد منهم من الشرق أَنْ يَلْقَى أبا هريرة ويأخذ عنه، حتى من الشرف الذي نال سيد التَّابِعِينَ وعالمهم بلا منازع سعيد بن المسيب أن تزوج بنت أبي هريرة ولازمه حتى تُوُفِّيَ، وبذلك بلغ الآخذون عنه من الصحابة والتَّابِعِينَ ثمانمائة من أهل العلم كما قدمناه عن " البخاري "، وهو عدد لم يبلغ عُشْرَهُ الآخذون عن أي صحابي آخر، وفي هذا ما يقنع الذين يريدون الحق ويستجيبون لوحي ضمائرهم بأن أبا هريرة كان في المحيط الذي يعيش فيه، وبين من يعرفونه من الصحابة والتَّابِعِينَ في الذروة العليا من الصدق يعلو عن الشك والريبة ووساوس المُرْجِفِينَ.
والذي يعرف ما كان عليه ذلك الجيل الممتاز من صحابة رسول الله والتَّابِعِينَ من صدق اللهجة، ونصرة الحق، وخذلان الباطل، وإنكار المنكر، والوقوف في وجه المبتدعين والمحاولين لتحريف الدين، والشدة على من انحرف، عن سُنَّةِ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قول أو عمل، يجزم بأنهم لم يكونوا ليسكتوا عن أبي هريرة لو كان عندهم أدنى شك في صدقه، كيف وهو ليس ذا سلطان، وليس ذا جاه ونفوذ، فما الذي كان يمنعهم من الإنكار عليه ومنعه من التحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو كانوا شَاكِّينَ في صدقه، وَهُمْ الذين كانوا يصدعون بالحق في وجوه الخلفاء والأمراء؟
ثالثاً - ورأيت كيف جابه مروان بن الحكم في قضية دفن الحسن مع جده المصطفى - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومروان والي المدينة، وهو أُمَوِيٌّ والدولة يومئذ للأمويين، ومع ذلك فقد غضب أبو هريرة لتدخل مروان في منع دفن الحَسَنِ عند الرسول - عَلَيْهِ السَلاَمُ -، وقال:«تَدَخَّلُ فِيمَا لاَ يَعْنِيكَ»! .. ولما أراد أن يتخذ مروان من إكثار أبي هريرة للحديث سبيلاً إلى إسكاته، أجابه ذلك الجواب الصريح