للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المُحَدِّثُونَ في الاحتياط وَالتَشَدُّدِ، مِمَّا دعاه إلى تضعيف أحاديث هي عندهم صحيحة مقبولة.

٣ - وكان من جهة أخرى يذهب إلى الاحتجاج بالمرسل إذا كان الذي أرسله ثقة، خلافاً لما ذهب إليه جمهور المُحَدِّثِينَ، مِمَّا جعله يستدل بأحاديث هي عندهم ضعيفة لا يُعْمَلُ بِهَا.

٤ - ونتيجة لتضييق أبي حنيفة من دائرة العمل بالحديث في الحدود التي رسمها واطمأن إليها، اضطر إلى القياس وإعمال الرأي، وقد آتاه اللهُ فيه موهبة عجيبة فذة لا مثيل لها، ولا ريب أن استعماله القياس إلى مدى واسع، بَاعَدَ الشُقَّةَ بينه وبين أهل الحديث، كما باعد بينه وبين بعض الفقهاء الذين لايستعملون القياس إلا في نطاق ضيق.

٥ - كان أبو حنيفة دقيق المسلك في الاستنباط دقة عجيبة بعيدة المدى قادراً على تقليب وجوه الرأي في كل مسألة لدرجة تذهل وتدهش.

أخرج ابن أبي العوام بسنده إلى محمد بن الحسن قال: «كَانَ أَبُوْ حَنِيفَةَ قَدْ حُمِلَ إِلَىَ بَغْدَادَ فَاجْتَمَعَ أَصْحَابُهُ وَفِيهِمْ أَبُوْ يُوَسُفَ وَزُفَرَ وَأَسَدٌ بْنِ عَمْرِوٍ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاء المُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَحَمَلُوا مَسْأَلَةَ أَيَّدُوهَا بِالحُجَاجَ، وَّتَنَوَّقُوْا فِيْ تَقْدِيمِهَا، وَقَالُوا: نَسْأَلُ أَبَا حَنِيفَةَ أََوَّلَ مَا يَقْدِمُ، فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو حَنِيفَةَ كَانَ أََوَّلَ مَسْأَلَةٍ سُئِلَ عَنْهَا تِلْكَ الْمَسْالَةِ، فَأَجَابَهُمْ بِغَيْرِ مَا عِنْدَهُمْ، فَصَاحُوا بِهِ مِنْ نَوَاحِي الحَلَقَةُ، يَا أَبَا حَنِيفَةَ بَلْدَتْكَ الْغُرْبَةِ، فَقَالَ لَهُمْ: «رِفْقًا رِفْقًا مَاذَا تَقُولُونَ؟» قَالُوا: «لَيْسَ هَكَذَا القَوْلُ». قَالَ: «أبِحُجَّةٍ أَمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ؟» قَالُوا: «بِحُجَّةٍ» قَالَ: «هَاتُوا»، فَنَاظَرَهُمْ فَغَلَبَهُمْ بِالْحِجَاجِ حَتَّى رَدَّهُمُ إِلَى قَوْلِهِ، وَأَذْعَنُوا أَنَّ الخَطَأَ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: «أَعَرَفْتُمْ الآنَ؟» قَالُوا: «نَعَمْ» قَالَ: «فَمَا تَقُولُونَ فِيْمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ قَوْلَهُمْ هُوَ الْصَّوَابُ .. وَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ خَطَأٌ؟» فَقَالُوا: «لاَ يَكُونُ ذَاكَ. قَدْ صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ». فَنَاظَرَهُمْ حَتَّى رَدَّهُمُ عَنْ


(١) " النكت الطريفة ": ص ٥.
(٢) " جامع بيان العلم ": ٢/ ١٤٥.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
[ملاحظة: وضع هذا الهامش بوجه الخطأ في الصفحة ٤٠٥، وإنما هو هامش صفحة ٤٠٤].