للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

القَوْلِ. فَقَالُوا: «يَا أَبَا حَنِيفَةَ ظَلَمْتَنَا وَالصَّوَابُ كَانَ مَعَنَا»، قَالَ: «فَمَا تَقُولُونَ فِيْمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ خَطَأٌ، وَالأَوَّلُ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ قَوْلٌ ثَالِثٌ؟» فَقَالُوا: «هَذَا لاَ يَكُونُ»، قَالَ: «فَاسْتَمِعُوا»، وَاخْتَرَعَ قَوْلاً ثَالِثًا، وَنَاظَرَهُمُ عَلَيْهِ حَتَّى رَدَّهُمُ إِلَيْهِ فَأَذْعَنُوا، وَقَالُوا: «يَا أَبَا حَنِيْفَةَ عَلِّمْنَا»، قَالَ: «الصَّوَابُ هُوَ القَوْلُ الأَوَّلُ الذي أَجَبْتُكُمْ بِهِ لِعِلَّةِ كَذَا وَكَذَا. وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ لاَ تَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الثَلاَثَةِ الأَنْحَاءِ وَلِكُلٍّ مِنْهَا وَجْهٌ فِي الفِقْهِ وَمَذْهَبٌ، وَهَذَا الصَّوَابُ فَخُذُوهُ وَارْفُضُوا مَا سِوَاهُ». اهـ.

إن من أوتي هذه القدرة العجيبة على تنقيب وجوه الرأي في مسألة واحدة، والقدرة على الدفاع عن كل رأي فيها، هو بلا شك من أدق الناس نظراً وأعمقهم استنباطاً للنصوص، وأقواهم حُجَّةً وبياناً، حتى لا يكون مغالياً فيه مثل الإمام مالك الذي قال عنه: «هَذَا رَجُلٌ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السَّارِيَةِ مِنْ ذَهَبٍ لاسْتَطَاعَ».

فلا بدع إذا كان في استنباطه ما يخالف رأي غيره من العلماء ورأي الجمهور من أهل الحديث الذين كانوا يقفون غالباً عند ظواهر النصوص، ويكرهون تعليلها وَرَدِّ بعضها إلى بعض، خصوصاً وقد كان في غمار المُحَدِّثِينَ عَوَاٌّم يَقُولُ عَنْهُمْ يَحْيَى بْنَ يَمَانٍ: «يَكْتُبُ أَحَدُهُمُ الْحَدِيثَ وَلاَ [يَتَفَهَّمُ] وَلاَ يَتَدَبَّرُ فَإِذَا سُئِلَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَسْأَلَةٍ جَلَسَ كَأَنَّهُ مُكَاتَبٌ» (١) أجل لقد كان منهم أُمِيُّونَ في تفكيرهم وثقافتهم، كثيراً ما أوقعتهم أُمِيَّتُهُمْ في تصحيفات وفتاوى مضحكة، فقد صلى أحدهم الوتر بعد الاستنجاء من غير إحداث وضوء، واستدل على هذا العمل بقوله - عَلَيْهِ السَلاَمُ -: «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» فهم منه صلاة الوتر، مع أن المراد منه إيتار الجمار عند الاستنقاء، وظل أحدهم لا يحلق رأسه قبل صلاة الجمعة أربعين سَنَةً على ما فهم من حديث نهي رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحِلَقِ قبل الصلاة يوم الجمعة، مع أنه الحِلَق بفتح اللام، والمراد منه النهي عن عَقْدِ الحَلَقَاتِ المُؤَدِّي إِلَى مُضَايَقَةِ النَّاسِ يوم الجمعة في المسجد، وفهم آخر من حديث «نَهَى أَنْ يَسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» المنع من سقي بساتين الجيران، مع أن المراد وَطْءَ الحبالى من السبايا، وسئل أحدهم في مجلس تحديثه عن دجاجة وقعت في بئر فقال للسائل: ألا غطيتها


(١) " جامع بيان العلم ": ٢/ ١٢١.