المُحَدِّثِين منذ عصر الصحابة، فابن مسعود وهو من أكبر رُواة الحديث كان يجتهد فيما ليس فيه نص، في حين كان ابن عمر - وهو من كبار المُحَدِّثِين أيضاًً - وَقًَّافاً عند النصوص، فليس كل من يجتهد، ويستنبط، يخرج من دائرة الحديث، كما أنه ليس كُلُّ مُحَدِّثٍ لا يستعمل رأيه فيما بين يديه من النصوص، وخذ لذلك مثلاً في التَّابِعِينَ، الثوري، أو الأوزاعي، فقد كانا أئمة الحديث، فى الوقت الذى كانا فيه من أئمة الفقه، ولا مانع يمنع من الجمع بين الناحيتين لمن آتاه الله فهماً وحفظاً.
أما أنه أخرج في "موطئه " المراسيل فذلك لأن مذهبه صحة الاحتجاج بالمرسل والمنقطع، لا لأنه لم يكن مَعْنِيًّا بالأسانيد كما يُعْنَى المُحَدِّثُونَ، كيف وقد روي عنه «رُبَّمَا جَلَسَ إِلَيْنَا الشَّيْخُ فَيُحَدِّثُ جُلَّ نَهَارِهِ مَا نَأْخُذُ عَنْهُ حَدِيثًا وَاحِدًا»، وهو القائل:«لاَ يُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَنْ أَرْبَعَةٍ، ... الخ» وقد نقلناه لك من قبل.
ويزيدك ثقة بما نقول أن أقران مالك اعترفوا له بالإمامة في الحديث والتثبت فيه، يقول سفيان بن عينة:«كان مالك لا يبلغ من الحديث إلا صحيحاً، ولا يُحَدِّث إلا عن ثقات الناس» وقال يحيى بن سعيد القطان: «كان مالك إماماً في الحديث»، ويقول ابن قدامة:«كان مالك أحفظ أهل زمانه».
ْ٢ - وأما أن " المُوَطَّأ " ليس كتاب حديث، فينقضه عناية العلماء به على اختلاف مذاهبهم، فهذا هو محمد بن الحسن يرويه بعناية وهو من أصحاب أبي حنيفة، وهذا هو الأوزاعي، يرويه عن مالك، وهو إمام مذهب معروف وها هو الشافعي يأخذه عن مالك أيضاًً، وها هم علماء من الحَنَفِيَّة والشافعية يشرحونه أو يختصرونه. نعم لقد كان للمالكية عناية به أكثر من غيرهم، لأنه كتاب إمامهم وصاحب مذهبهم.
ولو كان " المُوَطَّأ " كتاب فقه لما لقي هذا الإجماع على العناية به من مختلف المذاهب، أما أن أبوابه جاءت طبقاً لمقاصد الفقه وبحوثه، فهذا لا يخرجه عن أن يكون كتاب حديث كما فعل البخاري، وهو - بالاتفاق - قد صنف كتابه الصحيح ليكون كتاب حديث، ومع ذلك فقد بَوَّبَهُ على أبواب الفقه، وفعل مثل ما فعل