وإما أن تتعلق بالأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات وآداب وغيرها، وليس في حديث من هذه الأحاديث التي صَحَّحَهَا علماؤنا ما يرفضه العقل أو يحكم باستحالته، وإما أن تكون أخباراً عن الأمم الماضية أو أخباراً عن عالم الغيب مِمَّا لا يقع تحت النظر كشؤون السماوات والحشر والجنة والنار، وهذه ليس فيها ما يحكم العقل ببطلانه، وقد يكون فيها ما لا يدركه العقل فيستغربه.
فإذا جاءت عن طريق ثابت يفيد القطع فيجب اعتقادها، وإن جاءت عن طريق يفيد غلبة الظن فليس من شأن المسلم أن يبادر إلى تكذيبها.
وبهذا نرى أن فريقاً كبيراً من الناس لا يفرقون بين ما يرفضه العقل، وبين ما يستغربه، فَيُسَاوُونَ بينهما في سرعة الإنكار والتكذيب، مع أن حكم العقل فيما يرفضه، ناشئ من استحالته، وحكم العقل فيما يستغربه، ناشئ من «عَدَمِ القُدْرَةِ عَلَى تَصَوُّرِهِ» وفرق كبير بين ما يستحيل وبين ما لا يدرك.
على أننا نرى من الاستقراء التاريخي، وتتبع التطور العلمي والفكري، أن كثيراً مِمَّا كان غامضا على العقول أصبح مفهوماً واضحاً، بل إن كثيراً مِمَّا كان يعتبر حقيقة من الحقائق أصبح خرافة من الخرافات، وما كان مستحيلاً بالأمس أصبح اليوم واقعاً. ولا تحوجنا الأمثلة لذلك، فنحن نعيش في عصر استطاع فيه الإنسان أن يكتشف القمر بصواريخه. وهو الآن يستعد للنزول فيه (١) وفي غيره من الكواكب، ولو أن إنساناً فكر في مثل هذا في القرون الوسطى أو منذ مائة سَنَةٍ لَعُدَّ من المجانين.
والذين ينادون بتحكيم العقل في صحة الحديث أو كذبه، لا نراهم يُفَرِّقُونَ بين المُسْتَحِيلِ، وبين «المُسْتَغْرَبِ» فيبادرون إلى تكذيب كل ما يبدو غريباً في عقولهم. وهذا تهور طائش ناتج من اغترارهم بعقولهم من جهة، ومن اغترارهم بسلطان العقل، ومدى صحة حكمه فيما لا يقع تحت سلطانه من جهة أخرى.
ونحن نرى أن أكثر ما يستندون إليه في تكذيب ما صَحَّحَهُ الجمهور، إنما هي أحاديث تتعلق، إما بأخبار الأمم الماضية، وإما بالأمور الغيبية.
(١) وقد تحقق ذلك بعد وفاة المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ -.