[أنواع الظلم في الزيارة الشركية للقبور]
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وكذلك ما أمر به من الصلاة على الجنائز ومن زيارة قبور المؤمنين والسلام عليهم والدعاء لهم، هو من باب الإحسان إلى الموتى الذي هو واجب أو مستحب، فإن الله تعالى أمر المسلمين بالصلاة والزكاة، فالصلاة حق الحق في الدنيا والآخرة، والزكاة حق الخلق.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالقيام بحقوق الله وحقوق عباده، بأن يعبدوا الله لا يشركوا به شيئاً، ومن عبادته الإحسان إلى الناس حيث أمرهم الله سبحانه به، كالصلاة على الجنائز، وكزيارة قبور المؤمنين، فاستحوذ الشيطان على أتباعه فجعل قصدهم بذلك الشرك بالخالق وإيذاء المخلوق، فإنهم إذا كانوا إنما يقصدون بزيارة قبور الأنبياء والصالحين سؤالهم أو السؤال عندهم، أو أنهم لا يقصدون السلام عليهم ولا الدعاء لهم كما يقصد بالصلاة على الجنائز كانوا بذلك مشركين مؤذين ظالمين لمن يسألونه، وكانوا ظالمين لأنفسهم، فجمعوا بين أنواع الظلم الثلاثة.
فالذي شرعه الله ورسوله توحيد وعدل وإحسان وإخلاص وصلاح للعباد في المعاش والمعاد، وما لم يشرعه الله ورسوله من العبادات المبتدعة فيه شرك وظلم وإساءة وفساد العباد في المعاش والمعاد، فإن الله تعالى أمر المؤمنين بعبادته والإحسان إلى عباده، كما قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء:٣٦] وهذا أمر بمعالي الأخلاق، وهو سبحانه يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها.
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه الحاكم في صحيحه، وقد ثبت عنه في الصحيح صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، وقال: (اليد العليا هي المعطية واليد السفلى السائلة)، وهذا ثابت عنه في الصحيح.
فأين الإحسان إلى عباد الله من إيذائهم بالسؤال والشحاذة لهم، وأين التوحيد للخالق بالرغبة إليه والرجاء له والتوكل عليه والحب له، من الإشراك به بالرغبة إلى المخلوق والرجاء له والتوكل عليه، وأن يحب كما يحب الله؟ وأين صلاح العبد في عبودية الله والذل له والافتقار إليه من فساده في عبودية المخلوق والذل له والافتقار إليه؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بتلك الأنواع الثلاثة الفاضلة المحمودة التي تصلح أمور أصحابها في الدنيا والآخرة، ونهى عن الأنواع الثلاثة التي تفسد أمور أصحابها].
في هذا المقطع أشار الشيخ إلى معنى جيد ومهم جداً أيضاً في مناقشة أهل البدع والأهواء، خاصة أولئك الذين يصرفون العبادة إلى الأشخاص، أو الذين يتبركون بالأشياء والأشخاص بأكثر مما ورد به الشرع، فمن وجوه الرد عليهم أن يقال: إن عملكم هذا فيه أذى لأولئك المدعوين من دون الله؛ لأن هؤلاء المدعوين إما من الناس الصالحين، أو من الجمادات والمخلوقات التي لا تعقل، أو من غير الصالحين، فإن كانوا من الصالحين فهم لا شك يعظمون الله عز وجل ويعبدونه حق عبادته، ويعلمون أن دعاءهم من دون الله عز وجل أو التبرك بهم أو عمل شيء من البدع باسمهم وبأشخاصهم غير لائق إلا بالله عز وجل، فيتأذون بذلك أشد الأذى؛ لأنهم يعرفون أن هذا باطل، والباطل تضيق به نفس المؤمن حياً وميتاً، ولا شك أنه من الأمور التي تعد من أعظم أبواب الإساءة إلى الخلق، فضلاً عن أنها إساءة إلى الخالق عز وجل.
وإن كانوا من غير الصالحين، فإنهم يوماً من الأيام سيدركون أن هذا العمل خطأ ويتمنون أن لو لم يكن، لأنهم إن كانوا أصحاب أوزار زاد ذلك من أوزارهم، وسيعلمون الحقيقة عندما ينتقلون من هذه الحياة إذا لم يعلموها في حياتهم، فيكون ذلك من أشد الإساءة إليهم.
وإن كانت المعبودات من الجمادات، فلا شك أن الجمادات خاضعة لله عز وجل خضوعاً كاملاً، تسبح الله وتستغفره وتعبده كما هيأ الله لها ذلك، فعبادتها من دون الله يتنافى مع هذا ويتضاد، فلو كانت لها ألسنة لأعلنت أن ذلك أعظم الإساءة إليها.
ثم إنه أشار إلى معنى آخر، وهو أن طلب الأشياء من دون الله عز وجل إضافة إلى أنها إساءة فكذلك هي من الشحاذة لهم، والشحاذة هي السؤال بغير حق، وهي استجداء من المخلوق الناقص الذي لا يقدر على كل شيء، والإعراض عن استجداء الخالق وعبادة الخالق الذي يملك كل شيء، فهذا أيضاً يعتبر من الأعمال الدنيئة الرديئة، حيث قد تكفل الله برزقه وهو يستجدي الآخرين.
كما أن طلب اللقمة من الناس من المتسول الذي جعل التوسل مهنته هي شحاذة، فكذلك العبادة لغير الله من باب أولى، فهي نوع من استجداء المخلوقين فيما لا يقدرون عليه، أو فيما يجب أن يتوجه العبد إلى الله عز وجل به، ولا يطلب من المخلوقين إلا ما أذن الله فيه.
قال رحمه الله تعالى: [ولكن الشيطان يأمر بخلاف ما يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِي