قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحكاية التي تذكر عن مالك: أنه قال للمنصور لما سأله عن استقبال الحجرة، فأمره بذلك، وقال: هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم، كذب على مالك ليس لها إسناد معروف، وهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات في كتب أصحابه، كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي وغيره، مثلما ذكروا عنه أنه سئل عن أقوام يطيلون القيام مستقبلي الحجرة يدعون لأنفسهم، فأنكر مالك ذلك، وذكر أنه من البدع التي لم يفعلها الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وقال: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
ولا ريب أن الأمر كما قاله مالك، فإن الآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين تبين أن هذا لم يكن من عملهم وعادتهم، ولو كان استقبال الحجرة عند الدعاء مشروعاً لكانوا هم أعلم بذلك وكانوا أسبق إليه ممن بعدهم.
والداعي يدعو الله وحده، وقد نهى عن استقبال الحجرة عند دعائه لله تعالى، كما نهى عن استقبال الحجرة عند الصلاة لله تعالى، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)، فلا يجوز أن يصلى إلى شيء من القبور، لا قبور الأنبياء ولا غيرهم؛ لهذا الحديث الصحيح.
ولا خلاف بين المسلمين أنه لا يشرع أن يقصد الصلاة إلى القبر، بل هذا من البدع المحدثة، وكذلك قصد شيء من القبور لاسيما قبور الأنبياء والصالحين عند الدعاء، فإذا لم يجز قصد استقباله عند الدعاء لله تعالى فدعاء الميت نفسه أولى أن لا يجوز، كما أنه لا يجوز أن يصلي مستقبله فلأن لا يجوز الصلاة له بطريق الأولى.
فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئاً، لا يطلب منه أن يدعو الله له ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يشكى إليه شيء من مصائب الدنيا والدين.
ولو جاز أن يشكى إليه ذلك في حياته، فإن ذلك في حياته لا يفضي إلى الشرك، وهذا يفضي إلى الشرك؛ لأنه في حياته مكلف أن يجيب سؤال من سأله لما له في ذلك من الأجر والثواب، وبعد الموت ليس مكلفاً، بل ما يفعله من ذكر لله تعالى ودعاء ونحو ذلك، كما أن موسى يصلي في قبره، وكما صلى الأنبياء خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ببيت المقدس، وتسبيح أهل الجنة والملائكة، فهم يتمتعون بذلك، وهم يفعلون ذلك بحسب ما يسره الله لهم ويقدره لهم، ليس هو من باب التكليف الذي يمتحن به العباد].
كأن الشيخ يشير بهذا إلى ما ورد أن بعض الأنبياء تكون لهم حياة وأعمال خاصة بهم في القبور، وهذا لا يدل على أنهم يجيبون السائل، ولا أنهم ينتفعون بهذه الصلاة، لكن هي من باب الصلاة العامة التي سخر الله فيها جميع الخلق، فليس ذلك من باب التكليف ولا من باب زيادة الكرامة، إنما هو من باب الخضوع لله عز وجل كتسبيح الحصى وتسبيح الملائكة وغير ذلك.