[تصحيح الحاكم لحديث عبد الرحمن بن زيد وبيان غلطه فيه وموقعه بين أئمة الحديث]
قلت: ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أُنكر عليه، فإنه نفسه قد قال في كتاب المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا تخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه.
قلت: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيراً، ضعفه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي، والدارقطني وغيرهم.
وقال أبو حاتم بن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثُر ذلك من روايته، من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك.
وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله، فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث وقالوا: إن الحاكم يصحح أحاديث وهي موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث.
كما صحح حديث زريب بن بثرملي الذي فيه ذكر وصي المسيح، وهو كذب باتفاق أهل المعرفة كما بين ذلك البيهقي وابن الجوزي، وغيرهما.
وكذلك أحاديث كثيرة في مستدركه يصححها، وهي عند أئمة أهل العلم بالحديث موضوعة.
ومنها ما يكون موقوفاً يرفعه.
ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم، وإن كان غالب ما يصححه فهو صحيح، لكن هو في المصححين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه، وإن كان الصواب أغلب عليه، وليس فيمن يصحح الحديث أضعف من تصحيحه، بخلاف أبي حاتم بن حبان البستي، فإن تصحيحه فوق تصحيح الحاكم وأجل قدراً.
وكذلك تصحيح الترمذي والدارقطني وابن خزيمة وابن منده وأمثالهم فيمن يصحح الحديث، فإن هؤلاء وإن كان في بعض ما ينقلونه نزاع، فهم أتقن في هذا الباب من الحاكم.
ولا يبلغ تصحيح الواحد من هؤلاء مبلغ تصحيح مسلم، ولا يبلغ تصحيح مسلم مبلغ تصحيح البخاري، بل كتاب البخاري أجل ما صُنف في هذا الباب، والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعلله مع فقهه فيه، وقد ذكر الترمذي أنه لم ير أحداً أعلم بالعلل منه.
ولهذا كان من عادة البخاري إذا روى حديثاً اختُلف في إسناده أو بعض ألفاظه أن يذكر الاختلاف في ذلك لئلا يُغتر بذكره له بأنه إنما ذكره مقروناً بالاختلاف فيه.
ولهذا كان جمهور ما أُنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه، بخلاف مسلم بن الحجاج فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها وكان الصواب فيها مع من نازعه.
كما روى في حديث الكسوف أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بثلاث ركوعات وبأربع ركوعات كما روي أنه صلى بركوعين.
والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين، وأنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم، وقد بين ذلك الشافعي، وهو قول البخاري وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه.
والأحاديث التي فيها الثلاث والأربع فيها أنه صلاها يوم مات إبراهيم، ومعلوم أنه لم يمت في يومي كسوف ولا كان له إبراهيمان، ومن نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب.
وكذلك روى مسلم: (خلق الله التربة يوم السبت).
ونازعه فيه من هو أعلم منه كـ يحيى بن معين والبخاري وغيرهما، فبينوا أن هذا غلط ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
والحجة مع هؤلاء، فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأن آخر ما خلقه هو آدم وكان خلقه يوم الجمعة، وهذا الحديث المختلف فيه يقتضي أنه خلق ذلك في الأيام السبعة.
وقد روي إسناد أصح من هذا أن أول الخلق كان يوم الأحد.
وكذلك روى أن أبا سفيان لما أسلم طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بـ أم حبيبة، وأن يتخذ معاوية كاتباً، وغلطه في ذلك طائفة من الحفاظ.
ولكن جمهور متون الصحيحين متفق عليها بين أئمة الحديث، تلقوها بالقبول وأجمعوا عليها وهم يعلمون علماً قطعياً أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وبسط الكلام في هذا له موضع آخر].