للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قول العلماء في التوسل بجاه المخلوقين وذواتهم]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأكثر العلماء على النهي في الأمرين، ولا ريب أن لهم عند الله الجاه العظيم، كما قال تعالى في حق موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وقد تقدم ذكر ذلك، لكن ما لهم عند الله من المنازل والدرجات أمر يعود نفعه إليهم، ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم ومحبتنا لهم، فإذا توسلنا إلى الله تعالى بإيماننا بنبيه ومحبته وموالاته واتباع سنته فهذا من أعظم الوسائل.

وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته فلا يجوز أن يكون وسيلة، فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بالإيمان بالمتوسل به ولا بطاعته فبأي شيء يتوسل؟ والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقال لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه: اشفع لنا عنده، وهذا جائز].

يقصد الشيخ ما نسميه نحن الآن (الوساطات)، وهذا أمر وارد وجائز ولا يدخل فيما نحن فيه، فالناس فعلاً قد يحتاج بعضهم إلى جاه بعض في أمورهم ومصالحهم في الدنيا، لكن تقديم جاه البعض عند الله عز وجل لا ينفع؛ لأن كل إنسان لا ينفعه عند الله إلا عمله، لا جاهه، والجاه الذي يكون للأنبياء أو للصالحين أو للملائكة إنما ينفع أهله ولا ينفع غيرهم، لكن هذا لا يدخل فيما بين الناس من الجاه والحقوق التي بين الأرحام والحقوق التي بين الأصدقاء، والتي بين الراعي والرعية، والقدر الذي يكون للإنسان استخدامه لنفع الآخرين، فإنما هو من باب المنافع التي تكون بين البشر، فهو جائز بالضوابط الشرعية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإما أن يقسم عليه].

يعني: يقسم على المطلوب أو على الله عز وجل.

الملقي: [كما يقول: بحياة ولدك فلان، وبتربة أبيك فلان، وبحرمة شيخك فلان، ونحو ذلك.

والإقسام على الله تعالى بالمخلوقين لا يجوز، ولا يجوز الإقسام على مخلوق بمخلوق].

لأن هذه الأمور التي ذكرها الشيخ مثل أن يقول: بحياة ولدك أو كذا، سواء قصد القسم أو قصد النوع الآخر وهو اتخاذ الجاه وسيلة فهذه أمور ليست أسباباً لتحصيل المطلوب لا شرعاً ولا قدراً، كما ذكر الشيخ في السابق.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإما أن يسأل بسبب يقتضي المطلوب، كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:١] وسيأتي بيان ذلك.

وقد تبيّن أن الإقسام على الله سبحانه بغيره لا يجوز، ولا يجوز أن يُقسم بمخلوق أصلاً، وأما التوسل إليه بشفاعة المأذون لهم في الشفاعة فجائز.

والأعمى كان قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له كما طلب الصحابة منه الاستسقاء، وقوله: (أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة)، أي بدعائه وشفاعته لي، ولهذا تمام الحديث: (اللهم فشفعه في)، فالذي في الحديث متفق على جوازه، وليس هو مما نحن فيه، وقد قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:١].

فعلى قراءة الجمهور بالنصب إنما يسألون بالله وحده لا بالرحم، وتساؤلهم بالله تعالى يتضمن إقسام بعضهم على بعض بالله، وتعاهدهم بالله].

تفسير الآية واضح؛ لأن الله عز وجل أمر باتقاء الأرحام على قراءة النصب، بمعنى أن ترعى حقوقها، ومن حقوق الأرحام التساؤل بها أيضاً من وجه آخر كما سيأتي، فالتساؤل بالأرحام ليس المقصود به القسم بها ولا التوسل بها، بل اعتبارها في الحقوق، كما إذا رأيت ولداً قصّر في حق أبيه، تقول: هذا أبوك، فتجعل الأبوة وسيلة لأن تقنعه بأن يبر بأبيه، إن كان السائل أخاه تقول: هذا أخوك له رحم وله قرابة، فجعلت القرابة وسيلة لتحقيق الغرض المطلوب من ذاك الشخص المقصّر، وهكذا يقال في كل ما بين الناس من قرابات، فهذا معنى التساؤل بالأرحام، وليس المقصود اليمين بها، ولا اتخاذها وسيلة فيما يتعلق بدعاء الله عز وجل وسيلة غير مشروعة.

إذاً: ظاهر الآية واضح في أن المقصود بالتساؤل بالأرحام هو مراعاة حقوق الأرحام، وهذا مما يقع بين البشر مثلما يحدث في الشفاعات والواسطات وغيرها، فإن أولى من يشفع هو القريب، وأول من يعتبر قوله في حق الآخرين هو القريب وهكذا قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما على قراءة الخفض، فقد قال طائفة من السلف: هو قولهم: أسألك بالله وبالرحم، وهذا إخبار عن سؤالهم، وقد يقال: إنه ليس بدليل على جوازه، فإن كان دليلاً على جوازه، فمعنى قوله: أسألك بالرحم ليس إقساماً بالرحم، والقسم هنا لا يسوغ لكن بسبب الرحم، أي: لأن الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقاً كسؤال الثلاثة لله تعالى بأعمالهم الصالحة، وكسؤالنا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته.

ومن هذا الباب ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ابن أخيه عبد الله بن جعفر كان إذا سأله بحق جعفر أعطاه.

وليس هذا من باب الإقسام، فإن الإقسام بغير جعفر أعظم، بل من باب حق الرحم؛ لأن حق الله إنما وجب بسبب جعفر، وجعفر