[وسئل الإمام العالم العامل الرباني والحبر النوراني أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: عن النهوض والقيام الذي يعتاده الناس من الإكرام عند قدوم شخص معين معتبر هل يجوز أم لا؟ وإذا كان يغلب على ظن المتقاعد عن ذلك أن القادم يخجل أو يتأذى باطناً، وربما أدى ذلك إلى بغض وعداوة ومقت، وأيضاً المصادفات في المحافل وغيرها، وتحريك الرقاب إلى جهة الأرض والانخفاض، هل يجوز ذلك أم يحرم؟ فإن فعل ذلك الرجل عادة وطبعاً ليس فيه له قصد هل يحرم عليه أم لا يجوز ذلك في حق الأشراف والعلماء، وفيمن يرى مطمئناً بذلك دائماً هل يأثم على ذلك أم لا؟ وإذا قال: سجدت لله هل يصح ذلك أو لا؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين.
لم تكن عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه الصلاة والسلام كما يفعله كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقياً له، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لـ عكرمة، وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ رضي الله عنه:(قوموا إلى سيدكم)، وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة؛ لأنهم نزلوا على حكمه.
والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل أحد عن هدي خير الورى وهدي خير القرون إلى ما هو دونه، وينبغي للمطاع أن لا يقر ذلك مع أصحابه بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد.
وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقياً له فحسن، وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك أصلح لذات البين، وإزالة التباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له، وليس هذا القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم:(من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء؛ ولهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد، وقد ثبت في صحيح مسلم:(أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعداً في مرضه صلوا قياماً أمرهم بالقعود، وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضاً)، وقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد؛ لئلا يتشبه بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود، وجماع ذلك كله الذي يصلح اتباع عادات السلف وأخلاقهم والاجتهاد عليه بحسب الإمكان، فمن لم يعتقد ذلك ولم يعرف أنه العادة وكان في ترك معاملته بما اعتاد من الناس من الاحترام مفسدة راجحة فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما].
نجد شيخ الإسلام رحمه الله كعادته في مثل هذه الأمور، يقرر ويقعد، فهو في مسألة القيام التي يتنازع عليه الكثير من الناس الآن قد حرر المسألة من الناحية الشرعية وقعد لها أيضاً على أصول ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ويأمر به، فهو هنا ذكر أن القيام أنواع: فإذا كان القيام للشخص القادم وهو جاء من سفر، أو بعد العهد به من باب التحية له والاحترام، فهذا جائز وهو مشروع.
وإذا كان القيام لشخص ليس بغائب ولا مسافر لكن جرت العادة من الناس أن يقوموا، وليس المقصود بالقيام التعظيم والتقديس فهذا أيضاً جائز ما دام القعود أو عدم القيام يحدث شيئاً من سوء الفهم أو سوء الظن بين الفريقين أو بين القائم والقاعد، أو يعتبر إهانة وعدم تقدير للقادم، فإن الأولى القيام، كما يفعل الناس اليوم، إذا قام الناس من أجل السلام على القادم، فليس باللائق من واحد أن يشذ ويجلس، ما لم يكن هناك اعتبارات أخرى.
والصورة المثلى بين طلاب العلم أن يكون بينهم تواصي بألا يقوموا، مثلاً: مجلس فيه طلاب العلم كما يكون الآن في الجلسات والاستراحات ومجالس العمل وغيرها، فينبغي أن يكون بينهم شيء من التواصي بالأخذ بالسنة، بحيث أنهم كلهم لا يقومون، فإذا وجدت هذه الصورة بدون أن يكون هناك حزازات ولا لبس ولا مفاسد فهذا طيب، وينبغي للطلاب أن يعودوا الناس على هذا، لكن إن كان يترتب عليه أشياء من سوء الظنون أو إهانة الآخرين أو اعتقاد للإهانة ونحو ذلك فالأولى أن لا يوقع المسلم نفسه في حرج ويحرج الآخرين، أما إذا كان القيام لقاعد كما يحصل عند بعض أصحاب العوائج، يكون الشيخ أو الزعيم أو غيره قاعداً ثم يقوم الناس لأي سبب من الأسباب تعظيماً لهم، فهذا النص فيه صريح في المنع، وكذلك لو كان القيا