للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تصور الشياطين لبعض العباد]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد جرت هذه القصة لغير واحد من الناس، فمنهم من عصمه الله وعرف أنه الشيطان كالشيخ عبد القادر في حكايته المشهورة حيث قال: كنت مرة في العبادة فرأيت عرشاً عظيماً وعليه نور، فقال لي: يا عبد القادر! أنا ربك وقد حللت لك ما حرمت على غيرك، قال: فقلت له: أنت الله الذي لا إله إلا هو؟ اخسأ يا عدو الله، قال: فتمزق ذلك النور وصار ظلمة، وقال: يا عبد القادر، نجوت مني بفقهك في دينك وعلمك وبمنازلاتك في أحوالك، لقد فتنت بهذه القصة سبعين رجلاً، فقيل له: كيف علمت أنه الشيطان؟ قال: بقوله لي: حللت لك ما حرمت على غيرك، وقد علمت أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا تنسخ ولا تبدّل؛ ولأنه قال: أنا ربك، ولم يقدر أن يقول: أنا الله الذي لا إله إلا أنا].

أي: لأن الربوبية تحتمل معانٍ كثيرة، بينما الألوهية لا تحتمل إلا معنى أنه المعبود، بينما الربوبية تعني المالك، وتعني الصاحب، وتعني معانٍ كثيرة في اللغة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن هؤلاء من اعتقد أن المرئي هو الله، وصار هو وأصحابه يعتقدون أنهم يرون الله تعالى في اليقظة، ومستندهم ما شاهدوه، وهم صادقون فيما يُخبرون به، ولكن لم يعلموا أن ذلك هو الشيطان.

وهذا قد وقع كثيراً لطوائف من جهال العباد، يظن أحدهم أنه يرى الله تعالى بعينه في الدنيا؛ لأن كثيراً منهم رأى ما ظن أنه الله وإنما هو شيطان.

وكثير منهم رأى من ظن أنه نبي أو رجل صالح أو الخضر وكان شيطاناً.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي).

فهذا في رؤيا المنام؛ لأن الرؤيا في المنام تكون حقاً وتكون من الشيطان، فمنعه الله أن يتمثل به في المنام، وأما في اليقظة فلا يراه أحد بعينه في الدنيا، فمن ظن أن المرئي هو الميت فإنما أتي من جهله، ولهذا لم يقع مثل هذا لأحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان].

لم يحدث أن أحداً من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة الهدى رأى النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، أو أنه رأى الخضر أو أحداً من الأموات في اليقظة، لم يحدث لأحد من أئمة الهدى الذين هم على الاستقامة، والذين سبيلهم هو سبيل المؤمنين، وبهم القدوة والعبرة، ولذلك ما يحدث عند غلاة الصوفية من دعواهم أنهم يحضر عندهم النبي صلى الله عليه وسلم يقظة في حفلاتهم الراقصة ومجونهم وأورادهم البدعية، هذا كله من عبث الشيطان بهم؛ لأنهم يدّعون أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر لهم، ويسمون ذلك الحضرة، فمنهم من يدّعي أنه يراه، ومنهم من قد لا يدّعي أنه يراه لكن يتخيّل رؤيته ويفرشون له فراشاً أخضر أو نحو ذلك.

وقد تأتيهم أشباح أو خيالات، وقد لا تأتيهم، لكن منهم من يدّعي أنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وأنه يحضر هذه المحافل المشينة التي يربأ العاقل بنفسه أن يحضرها أو أن يراها ويسمعها، ففيها من الأمور الباطلة والسفاسف ما يترفع عنه عامة الناس، بل بعض الغوغاء من الناس لا يطيقون مثل هذه المشاهد، فكيف بالعقلاء؟ فكيف يدّعون أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضرهم؟ أما دعواهم حضور الخضر، فهذه دعوى متكاثرة جداً، لا يكاد صوفي إلا ويدّعي هذه الدعوى، حتى الذين لا يدّعون أنهم يرون الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة، لا يشكون أنهم يرون الخضر، وهذا لا شك أنه من الزعم الباطل، وأنه من عبث الشيطان بهم.

أما بالنسبة لدعواهم بأن الخضر يحضر؛ لأنه جاء فيه آثار مشكلة أنه حي وأنه لم يمت، فوجود مثل هذه الآثار وإن كانت لا تصح جعلتهم يتعلقون به، وقصته مع موسى قصة فيها غرابة، فإنه لم يكن معروفاً، وموسى عثر عليه في مكان لم يكن يتوقعه، وحدث له معه قصة تدل على أن الناس لا يعرفون هذا الرجل، وكأنه بزعمهم يتلون، فمن هنا صارت حكاية الخضر فيها مجال واسع لدعوى أنه من الممكن أن يظهر بمظاهر كثيرة وفي أماكن كثيرة وأزمان كثيرة، والله أعلم.