[معنى استفتاح أهل الكتاب على الكفار في الجاهلية والرد على من استدل به على التوسل البدعي]
قال رحمه الله تعالى: [وأما قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:٨٩]، فكانت اليهود تقول للمشركين: سوف يبعث هذا النبي ونقاتلكم معه فنقتلكم، لم يكونوا يقسمون على الله بذاته ولا يسألون به، أو يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الأمي لنتبعه ونقتل هؤلاء معه.
هذا هو النقل الثابت عند أهل التفسير، وعليه يدل القرآن؛ فإنه قال تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} [البقرة:٨٩]، والاستفتاح: الاستنصار، وهو طلب الفتح والنصر، فطلب الفتح والنصر به هو أن يبعث فيقاتلونهم معه؛ فبهذا ينصرون، ليس هو بإقسامهم به وسؤالهم به، إذ لو كان كذلك لكانوا إذا سألوا أو أقسموا به نصروا، ولم يكن الأمر كذلك، بل لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نصر الله من آمن به وجاهد معه على من خالفه.
وما ذكره بعض المفسرين من أنهم كانوا يقسمون به أو يسألون به؛ فهو نقل شاذ مخالف به للنقول الكثيرة المستفيضة المخالفة له].
يقصد الشيخ شيئاً سيذكره بعد قليل، فأحب أن أنبه على أن الشيخ رد على دعوى يدعيها أهل البدع من أصحاب التوسلات البدعية، ويعتمدون فيها على أحاديث ضعيفة، يدعون أن الاستفتاح الذي كان يستفتح به أهل الكتاب هو السؤال بالنبي الذي سيبعث أن ينصرهم، فيقول الشيخ: إن هذا لم يحدث، وهو مبني على أحاديث مكذوبة.
والأمر الآخر: أنه ما كان هذا من الاستفتاح الذي كانوا يستفتحون به، وإنما كان بنو إسرائيل يتوعدون العرب بأنه سيبعث نبي يقاتلونهم معه، ويقولون للعرب: اصبروا قليلاً! سيأتينا نبي ينصرنا ونقاتلكم معه، فننصر عليكم.
هذا هو نوع الاستفتاح الذي كانوا يستفتحون به ويتوعدون به.
أما أنهم يسألون بحق النبي فهذا لم يثبت، وما ورد في ذلك من الأحاديث إنما هو ضعيف أو موضوع لا أصل له.
قال رحمه الله تعالى: [وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في (دلائل النبوة)، وفي كتاب (الاستغاثة الكبير)، وكتب السيرة ودلائل النبوة والتفسير مشحونة بذلك.
قال أبو العالية وغيره: كان اليهود إذا استنصروا بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوباً عندنا حتى نغلب المشركين ونقتلهم، فلما بعث الله محمداً ورأوا أنه من غيرهم؛ كفروا به حسداً للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآيات: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:٨٩].
وروى محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن رجال من قومه قالوا: مما دعانا إلى الإسلام -مع رحمة الله وهداه- ما كنا نسمع من رجال يهود، وكنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الآن؛ فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، كثيراً ما كنا نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله محمداً رسولاً من عنده أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدونا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به؛ ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات التي في البقرة: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:٨٩].
ولم يذكر ابن أبي حاتم وغيره ممن جمع كلام مفسري السلف إلا هذا، وهذا لم يذكر فيه السؤال به عن أحد من السلف، بل ذكروا الإخبار به، أو سؤال الله أن يبعثه: فروى ابن أبي حاتم عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:٨٩]، قال: يستظهرون، يقولون: نحن نعين محمداً عليهم، وليسوا كذلك، يكذبون.
وروى عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}، قال: كانوا يقولون: إنه سيأتي نبي، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:٨٩].
وروى بإسناده عن ابن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد قال: أخبرني عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهوداً كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور و