[تفنيد ما يروى عن مالك في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم]
الآن سيورد القصة المكذوبة التي أشار إليها الشيخ قبل قليل عن مالك، ويذكر أنها باطلة ولا أصل لها.
قال رحمه الله تعالى: [فهذا كله نقله القاضي عياض من كتب أصحاب مالك المعروفة.
ثم ذكر حكاية بإسناد غريب منقطع رواها عن غير واحد إجازة، قالوا: حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهات قال: حدثنا أبو الحسن علي بن فهر قال: حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرح، قال: حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله أدّب قوماً فقال: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:٢] الآية، ومدح قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [الحجرات:٣] الآية، وذم قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات:٤] الآية، وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو؟ أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولِم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:٦٤].
قلت: وهذه الحكاية منقطعة؛ فإن محمد بن حميد الرازي لم يُدرك مالكاً لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور، فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة (١٥٨هـ)، وتوفي مالك سنة ١٧٩هـ، وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة ٢٤٨هـ ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه، وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث، كذّبه أبو زرعة وابن واره.
وقال صالح بن محمد الأسدي: ما رأيت أحدا أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه.
وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير.
وقال النسائي: ليس بثقة.
وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات.
وآخر من روى الموطأ عن مالك هو أبو مصعب وتوفي سنة ٢٤٢هـ وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبو حذيفة أحمد ابن إسماعيل السهمي توفي سنة ٢٥٩هـ.
وفي الإسناد أيضاً من لا تُعرف حاله.
وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه، ومحمد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند، فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته؟ هذا إن ثبتت عنه، وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه، بل إذا روى عنه الشاميون كـ الوليد بن مسلم ومروان بن محمد الطاطري ضعفوا رواية هؤلاء، وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين، فكيف بحكاية تناقض مذهبه المعروف عنه من وجوه رواها واحد من الخراسانيين لم يدركه وهو ضعيف عند أهل الحديث؟ مع أن قوله: (وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة)، إنما يدل على توسل آدم وذريته به يوم القيامة، وهذا هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، وهذا حق.
كما جاءت به الأحاديث الصحيحة حين يأتي الناس يوم القيامة آدم ليشفع لهم، فيردهم آدم إلى نوح، ثم يردهم نوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى، ويردهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر)].