هذا ما يتعلق بوجود طوائف من أهل البدع، يعتقدون فيمن يسمونهم الأولياء أن أحدهم يطير في الهواء أو يذهب إلى مكة، أو يصلي في الكعبة وهو في بلاد بعيدة، كل هذا من الاعتقادات الموجودة الآن، لكن صورها قلت لعدة أسباب، وقد كانت موجودة بكثرة في أول عهد شيخ الإسلام، ثم خفت بعد أن نفع الله بعلمه، وصار له تلاميذ، وعم منهجه كثيراً من البلاد الإسلامية، فخفت في وقته وبعده بقرنين أو ثلاثة، ثم بعد ذلك كثرت في القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر الهجري، ثم بظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحين تأثر بها كثيرون في البلاد الإسلامية الأخرى عن طريق الحجاج وعن طريق الوفود التي تفد بعدما قامت للتوحيد دولة، وبعدما ظهر نور التوحيد وانتشر، قلت هذه الصور بشكل كبير جداً، لهذا العامل.
ولعامل آخر أيضاً ليس محموداً وفي كل شر، وهو أن كثيراً من المسلمين في العصور المتأخرة حينما هيمنت عليهم دول الاحتلال النصرانية واليهودية، قل التدين أصلاً، حتى التدين البدعي قل، وكثر إعراض المسلمين عن الدين جملة، فتجد عامة المتعلمين والمثقفين في أكثر البلاد الإسلامية هم إلى التفرنج والإعراض عن الدين أقرب منهم إلى التدين، وإن كان عندهم نزعة تصوف؛ لأن التصوف مأوى لكل مبطل، يستطيع المعرض عن دين الله عز وجل بالكلية مهما عمل من الجرائم والآثام إذا ارتبط بشيخ من شيوخ الصوفية، أن يسمي نفسه متديناً، تجده في المسجد بسبحته، وإذا خرج لبس لباس الفجار، وعمل عمل الفجار، ثم يأتي بعد ذلك للمسجد ويصلي ويقبل رأس الشيخ، ثم يدعي بذلك أنه غفر له ذنبه كما عند النصارى.
فهذا استوجب شيئاً -أي: الإعراض مع بقاء نزعة التدين مجرد صورة- حيث جعل صور هذه البدع تقل، لا في الاعتقاد، لكن من الناحية العملية.
إذاً: قلت هذه الصور وإن كانت موجودة يشهد بها أناس أحياء، كما ذكرت لكم أكثر من مرة عن بعض أنصار السنة، فقد سمعت منهم: أن أفراداً كانوا على منهج أهل التصوف وكانت تحصل لهم مثل هذه الحالات، ومنهم الشيخ محمد الهدية رئيس أنصار السنة الآن بالسودان، سمعته أكثر من مرة يحدث عن نفسه، أنه عندما كان مع الصوفية كان يخيل له أنه يطير في الهواء.
فالشاهد أن هذه الصور قلت، لكن لم تنعدم، وسبب انحلالها وضعفها هو هذه الدعوة المباركة، التي وجد لها نماذج في أكثر بلاد المسلمين، والآن يوجد بحمد الله دعاة إلى التوحيد في كل بلاد الدنيا، فهؤلاء ينير الله بهم البصائر، وتخف بسببهم البدع وتستنكر عند طوائف من الناس، ولو لم يقلع الناس كلهم عن البدع، لكن على الأقل يصبح هذا المنكر محل نقاش ويوجد من ينكره، فتقل هذه الظواهر البدعية المغلظة.