قال رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا أن الصديق كان أمن الناس في صحبته وذات يده لأفضل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونه كان ينفق ماله في سبيل الله كاشترائه المعذبين، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً في خاصة نفسه لا إلى أبي بكر ولا غيره، بل لما قال له في سفر الهجرة:(إن عندي راحلتين فخذ إحداهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: بالثمن)، فهو أفضل صديق لأفضل نبي، وكان من كماله أنه لا يعمل ما يعمله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، لا يطلب جزاء من أحد من الخلق، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم.
ومن الجزاء أن يطلب الدعاء، قال تعالى عمن أثنى عليهم:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا}[الإنسان:٩]، والدعاء جزاء كما في الحديث:(من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه).
(وكانت عائشة إذا أرسلت إلى قوم بصدقة تقول للرسول: اسمع ما يدعون به لنا حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا لنا ويبقى أجرنا على الله)].
هذه مسألة مهمة وخفية على كثير من الناس، وهي أيضاً خلافية كما ذكر الشيخ في موضع آخر، وهي أن الإنسان إذا عمل معروفاً وأحسن إلى آخرين فهل يشرع له أن يطلب منهم الدعاء أو لا؟ قال بعض أهل العلم: لا حرج عليه، ويشرع له أن يطلب الدعاء ممن يحسن إليه، فإذا عمل خيراً مع أحد أو نفعه بشيء من أمور دينه أو دنياه فيقول: ادع الله لي، هذا قول.
والقول الآخر وهو الأرجح وعليه غالب أئمة السلف الكبار فيما أعلم: أنهم يرون هذا جائزاً لكن ليس هو الأولى، أي أنك تفرح وتتمنى أن يدعو لك الآخرون لكن لا ينبغي أن تطلب منهم؛ لأن جزاءك ثابت عند الله عز وجل سواء أدعوا لك أم لم يدعوا، ولأن في طلب الدعاء إضعافاً للاحتساب وطلب الأجر من الله، ونوعاً من القدح في الإخلاص.
فلذلك كان الأولى لمن بذل معروفاً لأحد أن يحتسب أجره عند الله عز وجل ولا يطلب الدعاء له جزاء إحسانه، ولذلك فقهت عائشة رضي الله عنها هذا الأمر، فكانت إذا أرسلت بالصدقة تقول لمن ترسله: اسمع ما يدعون لنا، تريد أن تدعو له بمثل ذلك، ويتمخض الأجر خالصاً من الله عز وجل.
قد يقول قائل: أليس في طلب الدعاء ممن تحسن إليه إذا دعا لك زيادة أجر من الله عز وجل؟ نقول: هذا قد يكون؛ لكن قد يكون العكس أيضاً، حيث يدخل في النفس شيء من العجب والرياء، ثم إنه من جانب آخر قد يضعف إيمان الإنسان في اتكاله على دعاء الآخرين فإن نفع طلب الدعاء من الغير عند الإحسان إليهم من وجه قد يضر من وجوه أخرى ترجع إلى أصل اليقين وإلى أصل التوكل في النفس، وهذا أثره يبقى على النفس أكثر من أثر العارض.