قال رحمه الله تعالى: [وقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن من يفعل ذلك، ونهى عن اتخاذ قبره عيداً؛ وذلك لأن أول ما حدث الشرك في بني آدم كان في قوم نوح، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، وثبت ذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم:(أن نوحاً أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض)، وقد قال الله تعالى عن قومه أنهم قالوا:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا}[نوح:٢٣ - ٢٤]].
الحديث الذي فيه أن نوحاً أول رسول يدل على أن الأنبياء غير الرسل؛ لأنه ثبت أيضاً أن آدم عليه السلام نبي، لكن الرسالة مقام أعلى من النبوة، ومعروف أن آدم عليه السلام هو أول البشر، وذريته كانوا على الفطرة وعلى الاستقامة، فما كانوا بحاجة إلى كتاب منزل؛ لأن الله عز وجل علم آدم كل شيء.
فلما نسي الناس مقتضى الفطرة، وخالفوا شرع الله الذي كان على عهد آدم، وكثر الجهل واندثرت معالم النبوة، بعث الله نوحاً رسولاً.
فكون نوح أول الرسل لا يتنافى مع كون آدم نبياً، أي: فآدم نبي لكن ليس برسول، وهذا هو الراجح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:[قال غير واحد من السلف: هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، فلما طال عليهم الأمد عبدوهم.
وقد ذكر البخاري في صحيحه هذا عن ابن عباس، وذكر أن هذه الآلهة صارت إلى العرب، وسمى قبائل العرب الذين كانت فيهم هذه الأصنام.
فلما علمت الصحابة رضوان الله عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حسم مادة الشرك بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، وإن كان المصلي يصلي لله عز وجل، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس لئلا يشابه المصلين للشمس، وإن كان المصلي إنما يصلي لله تعالى، وكان الذي يقصد الدعاء بالميت أو عند قبره أقرب إلى الشرك من الذي لا يقصد إلا الصلاة لله عز وجل لم يكونوا يفعلون ذلك.
وكذلك علم الصحابة أن التوسل به إنما هو التوسل بالإيمان به وطاعته ومحبته وموالاته، أو التوسل بدعائه وشفاعته، فلهذا لم يكونوا يتوسلون بذاته مجردة عن هذا وهذا.
فلما لم يفعل الصحابة رضوان الله عليهم شيئاً من ذلك، ولا دعوا بمثل هذه الأدعية، وهم أعلم منا وأعلم بما يجب لله ورسوله وأعلم بما أمر الله به رسوله من الأدعية، وما هو أقرب إلى الإجابة منا، بل توسلوا بـ العباس وغيره ممن ليس مثل النبي صلى الله عليه وسلم، دل عدولهم عن التوسل بالأفضل إلى التوسل بالمفضول أن التوسل المشروع بالأفضل لم يكن ممكناً].