وَجَمَاعَة، فَأَجَابُوا أَن الْقُرْآن مجعول لقَوْله تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} . وَالْقُرْآن مُحدث لقَوْله: مَا يَأْتِيهم من ذكر من رَبهم مُحدث. قَالَ إِسْحَاق: فالمجعول مَخْلُوق، قَالُوا: لَا نقُول مَخْلُوق لَكِن مجعول. فَكتب مقالتهم ومقالة غَيرهم إِلَى الْمَأْمُون.
فورد جَوَاب الْمَأْمُون إِلَى إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم: أَن يحضر قَاضِي الْقُضَاة بشر بن الْوَلِيد وَإِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فَإِن قَالَا بِخلق الْقُرْآن وَإِلَّا تضرب أعناقهما وَمن لم يقل سواهُمَا بِخلق الْقُرْآن يوثقه بالحديد ويحمله إِلَى الْمَأْمُون.
فَجَمعهُمْ إِسْحَاق وَعرض عَلَيْهِم مَا أَمر بِهِ الْمَأْمُون، فَقَالَ بشر وَإِبْرَاهِيم والجميع بِخلق الْقُرْآن إِلَّا أَرْبَعَة هم: أَحْمد بن حَنْبَل والقواريري وسجادة وَمُحَمّد بن نوح الْمَضْرُوب فَأَبَوا فشدهم فِي الْحَدِيد ثمَّ سَأَلَهُمْ، فأجابت سجادة والقواريري فأطلقهما وأصر الإِمَام أَحْمد وَمُحَمّد بن نوح على قَوْلهمَا فوجههما إِلَى طرطوس.
ثمَّ ورد كتاب الْمَأْمُون يَقُول: بَلغنِي أَن بشر بن الْوَلِيد وَجَمَاعَة مَعَه إِنَّمَا أجابوا بِتَأْوِيل الْآيَة الْكَرِيمَة الَّتِي أنزلهَا اللَّهِ تَعَالَى فِي عمار بن يَاسر إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان وَقد أخطأوا التَّأْوِيل فَإِن اللَّهِ تَعَالَى عَنى بِهَذِهِ الْآيَة من كَانَ مُعْتَقدًا للْإيمَان مظْهرا للشرك، فَأَما من كَانَ مُعْتَقدًا للشرك مظْهرا للْإيمَان فَلَيْسَ هَذَا لَهُ، فأشخصهم إِلَى طرطوس ليقيموا بهَا إِلَى أَن يخرج أَمِير الْمُؤمنِينَ من بِلَاد الرّوم.
فأرسلهم إِسْحَاق، فَلَمَّا صَارُوا إِلَى الرقة بَلغهُمْ موت الْمَأْمُون فَرَجَعُوا إِلَى بَغْدَاد.
وفيهَا مرض الْمَأْمُون لثلاث عشرَة خلت من جُمَادَى الْآخِرَة، وَذَلِكَ أَنه كَانَ جَالِسا هُوَ وآخوه المعتصم على شاطىء نهر البدندون وأرجلهما فِي المَاء وَهُوَ غَايَة الصفاء والعذوبة ذكرا طيب الرطب فوصلت بغال الْبَرِيد عَلَيْهَا الحقائف وفيهَا الألطاف، فجيء مِنْهَا بسلين فيهمَا رطب فتعجبا وشكرا اللَّهِ وأكلا مِنْهُ وشربا من المَاء فحما، وَلم يزل المعتصم مَرِيضا حَتَّى دخل الْعرَاق، وَلما مرض الْمَأْمُون أوصى إِلَى أَخِيه المعتصم بِحَضْرَة ابْنه الْعَبَّاس بتقوى اللَّهِ وَحسن سياسة الرّعية فِي كَلَام طَوِيل حسن وَقَالَ: هَؤُلَاءِ بَنو عمك ولد أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ أحسن صحبتهم وَتجَاوز عَن مسيئهم وَلَا تغفل صلَاتهم فِي كل سنة عِنْد محلهَا.
وَتُوفِّي فَحَمله أَخُوهُ وَابْنه إِلَى طرطوس فدفناه بسلاحه بدار جلعان خَادِم الرشيد
قلت: وَفِيه يَقُول بَعضهم:
(خلفوه بعرصتي طرطوس ... مِثْلَمَا خلفوا أَبَاهُ بطوس)
وَالله أعلم.
وَصلى عَلَيْهِ المعتصم، وخلافته عشرُون سنة وَخَمْسَة أشهر وَثَلَاثَة وَعِشْرُونَ يَوْمًا سوى أَيَّام دعِي لَهُ بالخلافة وَأَخُوهُ الْأمين مَحْصُور بِبَغْدَاد، ومولده لِلنِّصْفِ من ربيع الأول سنة سبعين وَمِائَة وكنيته أَبُو الْعَبَّاس؛ كَانَ ربعَة أَبيض جميلا طَوِيل اللِّحْيَة دقيقها وخطه