وَسِتِّينَ وثلثمائة بالمعرة وَعمي من الجدري سنة سبع وَسِتِّينَ غشى يمنى عَيْنَيْهِ بَيَاض وَذَهَبت الْيُسْرَى جملَة.
وَلما فرغ من تصنيف كتاب اللامع العزيزي فِي شرح شعر المتنبي وقرىء عَلَيْهِ أَخذ الْجَمَاعَة فِي وَصفه فَقَالَ أَبُو الْعَلَاء: كَأَنَّمَا نظر المتنبي إِلَيّ بلحظ الْغَيْب حَيْثُ يَقُول:
(أَنا الَّذِي نظر الْأَعْمَى إِلَى أدبي ... وأسمعت كلماتي من بِهِ صمم)
وَاخْتصرَ ديوَان أبي تَمام حبيب وَشَرحه وَسَماهُ ذكرى حبيب، وديوان البحتري وَسَماهُ عَبث الْوَلِيد، وديوان المتنبي وَسَماهُ معجز أَحْمد، وَتكلم على غَرِيب أشعارهم ومعانيها ومآخذهم من غَيرهم وَمَا أَخذ عَلَيْهِم وَتَوَلَّى الِانْتِصَار لَهُم والنقد فِي بعض الْمَوَاضِع عَلَيْهِم والتوجيه فِي أَمَاكِن لحظاتهم.
وَدخل بَغْدَاد سنة ثَمَان وَتِسْعين وثلثمائة، ودخلها ثَانِيًا سنة تسع وَتِسْعين وَأقَام بهَا سنة وأبعة أشهر، ثمَّ رَجَعَ إِلَى المعرة وَلزِمَ منزله وَشرع فِي التصنيف وَكَانَ يملي على بضع عشرَة محبرة فِي فنون من الْعُلُوم وَأخذ عَنهُ النَّاس وَسَار إِلَيْهِ الطّلبَة من الْآفَاق وَكَاتب الْعلمَاء والوزراء وَأهل الأقدار، وسمى نَفسه رهين المحبسين للزومه منزله ولذهاب عَيْنَيْهِ، وَمكث خمْسا وَأَرْبَعين سنة لَا يَأْكُل اللَّحْم تدينا، وَعمل الشّعْر وَهُوَ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة وَمن شعره فِي اللُّزُوم:
(لَا تَطْلُبن بآله لَك رُتْبَة ... قلم البليغ بِغَيْر حَظّ مغزل)
(سكن السَّمَاء كَانَ السَّمَاء كِلَاهُمَا ... هَذَا لَهُ رمح وَهَذَا أعزل)
وَتُوفِّي لَيْلَة الْجُمُعَة ثَالِث وَقيل: ثَانِي ربيع الأول، وَقيل: ثَالِث عشرَة مِنْهَا وَأوصى أَن يكْتب على قَبره هَذَا الْبَيْت:
(هَذَا جناه أبي عَليّ ... وَمَا جنيت على أحد)
وَلما توفّي قرىء على قَبره سَبْعُونَ مرثية، وَمِمَّنْ رثاه تِلْمِيذه أَبُو الْحسن عَليّ بن همام بقوله:
(إِن كنت لم ترق الدِّمَاء زهادة ... فَلَقَد أرقت الْيَوْم من جفني دَمًا)
(سيرت ذكرك فِي الْبِلَاد كَأَنَّهُ ... مسك فسامعه يضمخ أَو فَمَا)
(وَأرى الحجيج إِذا أَرَادوا لَيْلَة ... ذكراك أخرج فديَة من أحرما)
هَذَا خُلَاصَة مَا قَالَه القَاضِي شمس الدّين بن خلكان فِي تَارِيخه.
قلت: وَقَول تِلْمِيذه: لم ترق الدِّمَاء زهادة، يدْفع قَول من قَالَ إِنَّه لم يرق الدِّمَاء فلسفة وَنسبه إِلَى رَأْي الْحُكَمَاء، وتلميذه أعرف بِهِ مِمَّن هُوَ غَرِيب يَرْجُمهُ بِالْغَيْبِ، وماذا على من ترك اللَّحْم وَهُوَ من أعظم الشَّهَوَات خمْسا وَأَرْبَعين سنة زهادة، وَقد قَالَ الْمَكِّيّ فِي قوت الْقُلُوب: إِبَاحَة حَلَال الدُّنْيَا حسن والزهد فِيهِ أحسن، وَلما أَتَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أهل قبَاء بشرية من لبن مشوبة بِعَسَل وضع الْقدح من يَده وَقَالَ: " أما إِنِّي لست أحرمهُ وَلَكِن