أتركه تواضعا لله تَعَالَى "، وَأتي عمر بن الْخطاب رَضِي اللَّهِ عَنهُ بِشَربَة من مَاء بَارِد وَعسل فِي يَوْم صَائِف فَقَالَ: اعزلوا عني حِسَابهَا. وَقد نهى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن التنعم، وَكتب الرقَاق وَغَيرهَا مشحونة بترك السّلف الصَّالح للشهوات والملاذ الفانية رَغْبَة فِي النَّعيم الْبَاقِي.
ورثاه أَيْضا الْأَمِير أَبُو الْفَتْح الْحسن بن عبد اللَّهِ بن أبي حَصِينَة المعري بقصيدة طَوِيلَة مِنْهَا:
(الْعلم بعد أبي الْعَلَاء مضيع ... وَالْأَرْض خَالِيَة الجوانب بلقع)
(أودي وَقد مَلأ الْبِلَاد غرائبا ... تسري كَمَا تسري النُّجُوم الطّلع)
(مَا كنت أعلم وَهُوَ يودع فِي الثرى ... أَن الثرى فِيهِ الْكَوَاكِب تودع)
(جبل ظَنَنْت وَقد تزعزع رُكْنه ... أَن الْجبَال الراسيات تزعزع)
(وَعَجِبت أَن تسع المعرة قَبره ... ويضيق بطن الأَرْض عَنهُ الأوسع)
(لَو فاضت المهجات يَوْم وَفَاته ... مَا استكثرت فِيهِ فَكيف الأدمع)
(تتصرم الدُّنْيَا وَيَأْتِي بعده ... امم وَأَنت بِمثلِهِ لَا تسمع)
(لَا تجمع المَال العتيد وجد بِهِ ... من قبل تَركك كل شَيْء تجمع)
(وَإِن أستطعت فسر بسيرة أَحْمد ... تَأْمِين خديعة من يغر ويخدع)
(رفض الْحَيَاة وَمَات قبل مماته ... مُتَطَوعا بابر مَا يتَطَوَّع)
(عين تسهد للعفاف وللمتقى ... أبدا وقلب للمهيمن يخشع)
(شيم تجمله فهن لمجده ... تَاج وَلَكِن بالثناء يرصع)
(جَادَتْ ثراك أَبَا الْعَلَاء غمامة ... كندي يَديك ومزنه لَا يقْلع)
(مَا ضيع الباكي عَلَيْك دُمُوعه ... إِن الدُّمُوع على سواك تضيع)
(قصدتك طلاب الْعُلُوم وَلَا أرى ... للْعلم بَابا بعد بابك يقرع)
(مَاتَ النهى وتعطلت أَسبَابه ... وَقضى التأدب والمكارم أجمع ... )
فَانْظُر إِلَى مَا رثاه أَيْضا بِهِ هَذَا الرجل وَوَصفه بِهِ من تقاه ورفضه للحياة وَمَوته قبل الْمَوْت وتطوعه وَهُوَ أَيْضا أعلم بِهِ من الْأَجَانِب.
وَبِالْجُمْلَةِ: فقد ألف الصاحب كَمَال الدّين بن العديم رَحمَه اللَّهِ تَعَالَى فِي مناقبه كتابا سَمَّاهُ كتاب الْعدْل والتحري فِي دفع الظُّلم والتجري على أبي الْعَلَاء المعري وَقَالَ فِيهِ: إِنَّه اعْتبر من ذمّ أَبَا الْعَلَاء وَمن مدحه، فَوجدَ كل من ذمه لم يره وَلَا صَحبه وَوجد من لقِيه هُوَ المادح لَهُ، وَهَذَا دَلِيل لما قلته.
وصنف بعض الْأَعْلَام فِي مناقبه كتابا وَسَماهُ دفع المعرة عَن شيخ المعرة، وَفِي هذَيْن الْكِتَابَيْنِ فُصُول من نَوَادِر ذكائه وإجابه دُعَائِهِ والاعتذار عَن طعن أعدائه، وَأَنا كنت أتعصب لَهُ لكَونه من المعرة، ثمَّ وقفت لَهُ على كتاب اسْتغْفر واستغفري فأبغضته وازددت عَنهُ نفرة، وَنظرت لَهُ فِي كتاب لُزُوم مَا لَا يلْزم فَرَأَيْت التبري مِنْهُ أحزم، فَإِن هذَيْن الْكِتَابَيْنِ يدلان